علي بن سالم كفيتان
ذهبتُ إلى الغابة هذه المرة فمنذ وقت طويل لم أزرها مكتفياً بزيارات من بعيد أشتم من خلالها رائحة الزهور الربيعية من مفازات الجبال وأطراف الطرق المُسفلتة وغالباً ما يشغلني بصري فيجذبني لمُتابعة الأشياء ويجر هاتفي من جيبي فأجد نفسي أسعى لغير الهدف الذي حضرت من أجله فتشغلني الشمس والغروب أو كائن صغير يسعى لرزقه في بواكير الصباح وأنسى أنني أتيت من أجل الغابة وسكونها وهوائها العليل وحفيف أوراقها البرتقالية. يا الله... متى سأستطيع ضبط دواخل الفضول هذه؟ وأعود لمهرجانات الطفولة مُنتشياً بجمع الأمنيات مع زهور الربيع المُتساقطة!!
هذه المرة تركت هاتفي النَّقال وكل أمتعة العصر الجديد وأخليت جميع العهد في سيارتي وذهبت ليس لدي سوى عصا أفرق بها الطريق وأسعى خلفها كل اللحظات كانت في غاية المتعة فرائحة الأعشاب شبه اليابسة وصوت العصافير وهي تتجاذب أطراف الصياح من بعيد بينما يُردد الوادي صداها فيرجعه لي بتقنية طبيعية عالية.. سحبتني العصا إلى وسط الوادي ومع ذلك أجد نفسي تنازعني لتوثيق كل ما أرى فلا شعورياً تنسل يدي إلى جيبي بحثا عن الهاتف كلما شاهدت زهرة جميلة أو عصفورا مغردا أو منظرا خلابا، لقد أصبح هذا الشريك (الهاتف) مزعجاً حقاً، فقد بدوت اتصرف كمدمن دون أن أشعر فاسترجع قواي وأقول أنت هنا لتمتع جميع حواسك وتُغذي نفسك المنهكة أنت في عيادة الطبيعة البكر، ويجب عليك نسيان الهاتف المحمول والحاسب الآلي والجهاز اللوحي وشبكة الواي فاي وقوة الإرسال وكل هذه الوسائط المزعجة التي أخذتنا من إنسانيتنا لنصبح أشباه أجهزة.
استلقيت على ظهري متفحصاً السماء الصافية فرأيت نجوماً متلألئة وقمرا منيرا؛ لقد جذبتني النجوم لكنني استحيت من القمر فكنت أعود إليه في كل مرة فأجده ملثماً، إنها بدايات صفر والوجه لم يكتمل.. بعدها شعرت ببعض الخدر يسري في جسدي الملقى على الأعشاب فتوسدت ذراعي لتهب عليّ نفحات الهواء البارد القادم من عُمق المكان، فهذه النسمات تُعيد شحن طاقتي الإنسانية وتطرد كل الشوائب التي لحقت بها طول عام مضى، هنا تحس أنك قريب من الله... هنا تستذكر كل جميل وتعود روحك الإيجابية إليك فتسترد إنسانيتك مجدداً فعندما توقد النار وتدقق في فرقعات اللهب المُتطاير ترى شظايا الكره والحسد والأنانية وكل المشاعر السيئة تتطاير بعيدًا عنك ومع مرور الليل تخبت إلى الخالق وتحن إليه فتقف أمامه وحيدا منكسرا تدعوه بإخلاص وطمأنينة فيستجيب لك.
سيموت الخوف مع هذه الخلوة وستنبثق مشاعر لم تشعر بها من قبل إنِّه الأمل والقوة والاستسلام لإرادة الله عندما تغفوا لساعة في أحضان الطبيعة ستعادل ألف ساعة في محيطك اليومي المشحون بالرقمنة وستشعر أنك كنت آلة طوال العام ولم تكن إنساناً... ستغزوك مشاعر الحب التي افتقدتها وتقفز إلى الواجهة مشاعر النبل والإيثار التي ذبلت عندك مع الأيام ... فإن أحسنت الاستمتاع بالأوقات الجميلة دون أن يشغلك كائن بشري أو نزغ رقمي ستسمو ذاتك لبضع ساعات وستعلو همتك كمن يأخذ ترياقاً لعام كامل لذلك الجلوس مع الذات ومُحاسبة النفس بعيدا عن المؤثرات يعتبر تطهيراً للعوالق التي ألمت بك ولم تستطع المطهرات أو الإبر أو حتى المضادات الحيوية أن تجتثها من جسدك.
بعد منتصف الليل بقليل عدت أدراجي عبر نفس الطريق التي سلكتها ذلك المساء لم أصادف مخلوقاً سوى نفسي لكنني استمتعت بصوت الليل ونباح ذئب من بعيد فعلمت أنَّ هذا هو آخر معاقل الذئاب التي لا تخون ولا تترك صاحباً يموت وحيداً ...وعند اقترابي من مركبتي الرابضة على رأس المرتفع تبادر إلى مسمعي رنين الرسائل وتنبيهات المواعيد وصراع مواقع التواصل الاجتماعي ومشاكل الناس ولما فتحت الواتساب وجدت رسائل صوتية وأخرى مكتوبة وضجيجاً من الصور والفيديوهات المُكررة إنها الحياة التي يصبح فيها الإنسان مفتقداً جانبا كبيرا من إنسانيته وفطرته التي خلق عليها.