إسماعيل بن شهاب البلوشي
لم يختلف أحد على مر التاريخ حول أنَّ العلم هو أساس كل حضارة وازدهار، بل وقوة، ولكن ثمَّة بعض الاجتهادات في تعريف العلم وقيمته في مراحل مختلفة وبين شعوب وأخرى، ومع أنني أميل دوماً للتعمّق والفكر في معنى الكلمتين باللغة اللاتينية Education، والكثير منا يعتقد أنها لغة إنجليزية أو أنها كلمة واحدة، لكن في الحقيقة هما كلمتان وتعنيان البحث عن العلم.
هنا.. لا بُد لنا من وقفة مهمة وكبيرة، وعلى مختلف المستويات؛ سواءً من أولئك القائمين على التعليم أو المتلقين له، وقد تقلب كل الموازين والإستراتيجيات، وقد يختصر الباحثون على تطوير التعليم الكثير من الطرق والأساليب والتوجهات، أي أنه وبالمعنى الآخر لا يمكنك أن تُعلِّم أحداً، بل إن على طالب العلم أن يبحث ويجِد في طلبه، وأن يكون متعطشاً ليرتوي بالعلم، وهذا المعنى يدخل حتى في طرق التعليم وبرامج التعليم، والأهم من ذلك الاقتناع الفعلي والراسخ بحاجة الطالب للعلم، وهذا الأمر كبير جدًّا؛ حيث إنَّ الاقتناع الفعلي بالحاجة للعلم يرتبط مرة أخرى بتقدير المجتمع وبكل أطيافه وقوانينه المرتبطة بالعلم، وهذا التقدير ليس من خلال التعبير بالكلمات، وإنما بوجود ذلك الطيف المتكامل الذي في جزء منه يعني وبكل وضوح تطبيق الفوارق العميقة والفعلية بين المتعلم وغير المتعلم، وكذلك ارتباطه المؤكَّد بمستقبل وتقدم ورفاهية المتعلم الفعلي الذي يرتبط تعليمه بالأخلاق والإنتاج والإبداع والتميز، وفي كل شيء بينه وبين من حوله.
من جانب آخر، وسأقول أمراً يجب علينا جميعاً أن لا نتردَّد في الحديث عنه، وبكل مصداقية؛ لأنَّ تغليف الأمور بإطار المصداقية الكاذبة كان واحداً من فصول التأخير الكبير للأمة، وكذلك قياس الجامعات العربية بين جامعات دول العالم، ولقد عُلّق الكثير من أشكال التخلف على الطالب العربي والمعلم العربي، بل إن الشك وصل إلى الفروق الكبيرة بين الأجنبي والعربي في قوة الفكر، وهذا الحديث مُجَانِب للحقيقة وبقوة؛ فالطالب العربي والموظف العربي والمعلم العربي تفوَّق وأبدع ونافس الأجنبي في عُقر داره، وكذلك فإنَّ الشكوك في المصداقية الفعلية في تطبيق الامتحانات والبُعد عن الغش فيها، وكذلك التساؤل الكبير في مصداقية كتابة البحوث وأوراق العمل وحتى في وجود الشهادات المزورة، كل هذا وإن وجد فهو ليس بسبب عدم مقدرة الطالب العربي على الالتزام والاجتهاد الفعلي مطلقاً.
غير أنَّنا نعود للعنوان في ماهيّة قيمة العلم والمتعلم الفعلية، فأنت كإنسان معني بالتوضيح والحديث والتلقين، غير أن الجميع وفي عمقة البعيد يعلم ويدرك -وهو جزء من المجتمع- أنَّ آلة تسخير العلم الفعلي لم تبدأ بالدوران، ويعلم تماماً وفي عمقة أنه بحاجة لشهادة أو كل ورقة تميزة بلقب أو وظيفة أو مال محدد مقابل هذه الشهادة، يتبعها أسلوب طيب في التعامل مع المدير وانتهى الأمر. لذلك؛ فإنَّ جهدك الحقيقي في التعليم والحديث عنه تكشفه حقائق مغايرة لما تقول، وهو يعلم ذلك، وإذا كان في سن صغيرة فإن والديه يعلمان ذلك، وأن اجتهادهما سيكون البحث عن الشهادة، وفي اختبار بسيط لما أقول: فلو أنك قلت لطالب في دولة ما خذ الامتحان وحله في المنزل، فإنه غالباً ما سيقوم بذلك. أما طالب آخر، فقد يُحَل له ولن يُزعج نفسه حتى بقراءة الإجابة، كذلك في جوانب البحوث: هل لأنَّ الأول أكثر مصداقية وأفضل تربية وتوجّها، وأن الآخر معاكس لذلك أبداً ومطلقاً، غير أنَّ الأول يعلم ومتيقن أن ما سيقوم به من امتحان أو بحث سيحتاجه يوماً وسيحرج أيما إحراج إذا لم يكن فيه مُطّلعا وأن الآخر وفي عمقه يعلم أنه جزء من برنامج سيشهد احتفالاً وتصفيقاً ومشاهد تصوير وتلميع جميل، وأن الجميع يعلم عن ذلك.
وقد أصبح الرضا سلوكًا فكريًّا في الجميع؛ لذلك هو مطلقاً ليس تقصيراً أو ضعفاً في الطالب العربي، إنما سوق العلم في العالم كاسد مهمش، ارتبط بقلة الإنتاج والصناعة والإبداع والحاجة الفعلية إليه، لذلك فإنَّ رسالتي لكل من يبحث في تطوير التعليم، وقبل التفكير في البحث عن البرامج والأساليب علينا جميعاً دراسة قيمة العلم والمتعلم والمعلم، وأن تكون المنافسة في كل شيء عادلة بقيمة الإنسان المتعلَّم الفعلي، وليست بالشهادة، ومن هذا، وعندما يعلم الجميع أن الأمر مُطبَّق وبكل مصداقية وأمانة، فإنَّ الطالب هو من سيجبر القائمين على التعليم بالرقي، بل إنه سيقف لهم بالمرصاد في كل شيء، وسيسأل عن كل شيء؛ وحينها سيدرك الجميع قيمة العلم، وسيطور العلم ذاته، بل ستدور عجلة التقدم، وفي كل شيء، وسيكون العلم فيها واجهة كل شيءٍ.
واخيراً.. ومهما اجتهدنا، فإنَّ العلم لم ولن يكون يوماً للبيع، مهما كان أسلوب العرض وشكله؛ لأنني كملتقٍّ لن أشتري مالا أريد، ولا كل ما هو معروض، غير أنني سأبحث وأنتقي ما يُناسبني، وما سأجد نفسي فيه، وسأبدع وأنجح، وإن في العلم من العمق والروح غير المرئية ما يجعل من أهميته تساير حاجة الإنسان للماء.