عندما تنهار البديهيات!! (1)

 

 

أ.د. حيدر أحمد اللواتي

 

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

 

"عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مُبسطة ومفهومة، تُثير الخيال البشري وتجعله يُحلق في فضاء رحب، بعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها".

 

الزمن.. انقلاب في المفهوم

 

لو أنَّ لأحد الحق في أن يفتخر بالقرن الذي ولد فيه، فمن أكثر من يحق لهم الافتخار من ولدوا في القرن العشرين، لأنَّ كل التطور التكنولوجي المُذهل الذي نعيشه اليوم هو بفضل النظريات العلمية التي اكتشفها العقل البشري في بدايات القرن الماضي وهي في الواقع ثورات علمية تمثلت وبشكل خاص بثلاث نظريات علمية وهي نظرية الكم، والنسبية الخاصة والعامة.

فتكنولوجيا الاتصالات بأشكالها المُختلفة ونظم التموضع العالمي (GPS) والحواسيب وغيرها من تقنيات الاتصالات هي نتائج مُباشرة لهذه النظريات العلمية الهامة، بل إن حاسوب المُستقبل الذي يتم تطويره هو تطبيق مباشر على نظرية الكم ولهذا يطلق عليه الحاسوب الكمي.

تعد تلك الثورات آخر الثورات العلمية في فهمنا لهذا العالم المادي من حولنا، فهذه النظريات العلمية لم تكتف بالقيام بالثورات التكنولوجية بل أحدثت ثورة وانقلاباً فكرياً في فهمنا للعالم من حولنا بصورة يصعب تصورها وتصديقها، وأدخلت الشك في كثير مما كنَّا نظن أنَّه واقع صحيح بوجداننا كبشر، وفي هذه المقالة سوف نطرح فهمنا للزمن بناءً على النظرية النسبية الخاصة ودون الخوض في التفسير العلمي لها أو طرق إثبات هذه النظرية بل سنقوم بطرح نتائجها وبشكل مُبسط، يسمح للقارئ أن يعيش بعدها في عالمه الخاص وبزمنه الخاص به.

ما هو الزمن؟ إنِّه مرتبط في أذهاننا بعقارب الساعة؟ فعقارب الساعة تمضي قدماً باتجاه المستقبل، ولذا فالزمن أيضاً يمضي قدماً نحو المستقبل ولا يرجع بنا إلى الماضي ولذا فنحن ومع شديد الأسف نهرم ولا نصغر، فالزمن كنهر جارٍ بقوة نحو مصب لا نعرف له نهاية ونحن نسبح فيه ولا نستطيع مقاومة تياره الجارف يقودنا نحو المُستقبل ولا يرجعنا إلى الماضي وبين المستقبل والماضي نعيش حاضرنا، لذا فإحساسنا فيه بأنه مستقل عنَّا فنحن نعيش فيه ولا نُؤثر عليه.

الزمن أيضاً هو من يُرتب لنا الحوادث، فعند قيامنا في الصباح، نرتب جدول أعمالنا واجتماعاتنا مع الآخرين حسب أوقات نتفق معهم عليها، فهو العامل المشترك بيننا جميعًا، إنِّه الثابت الذي يجمعنا مهما تغيرت مواقعنا، فإذا سافر أحدنا علينا أن نضيف أو أن ننقص عدداً من الساعات ونضع ذلك في حساباتنا وتستمر حياتنا بشكل منظم وبدون صعوبات تذكر.

ولكن هل لك أن تتصور أن يكون لكل واحد منِّا زمنه الخاص به، فوقتي ليس وقتك وزمني خاص بي وزمنك خاص بك، فلكل واحدٍ منِّا زمنه وساعته فساعتك تشير إلى السابعة صباحًا وساعتي تشير إلى السابعة والربع وساعة زميلنا الآخر تشير إلى السابعة والنصف، وكل هذه الأوقات صحيحة لا خطأ فيها.

هذا ما تشير إليه النظرية النسبية الخاصة التي صاغها العبقري الكبير آينشتاين، فلقد ألغت النسبية الخاصة فكرة الزمن المطلق (المشترك بين بني البشر) فزمنك مرتبط بسرعة جسمك وموقعه، بل لا وجود للزمن دونك فهو خاصية ملازمة لك، فالزمن لم يعد كنهر جارٍ ونحن نسبح فيه ولا نُؤثر عليه بل هو من خصائصك وخاص بك فلكل جسم زمنه، وبهذا غدا الزمن بُعدا من أبعاد الجسم وتداخل الزمان والمكان معًا، فلا معنى للزمن من دون تحديد موقع الجسم وسرعته.

إنَّ اشتراكنا في الوقت والزمن ليس لأنه مشترك بيننا بل لأننا نسير في هذا الكون بسرعات متشابهة منخضة نسبياً إذا ما قورنت بسرعة الضوء.

لقد وجد أن للضوء سرعة ثابتة ولهذا فإحساسنا بأن الضوء ينتقل بسرعات لا مُتناهية أمر غير صحيح، فللضوء سرعة ثابتة في الفراغ لا تتغير، وهذه السرعة هي السرعة القصوى المسموح بها في هذا الكون المادي، فمهما بذلنا من طاقة ومهما صنعنا من محركات قوية فلن نستطيع تجاوزها.

إنَّ سرعة الضوء كبيرة جدا تصل إلى 300 مليون متر في الثانية الواحدة في الفراغ، ولذا فهي سرعة خيالية تفوق التصور وخاصة على كرتنا الأرضية، ولكن سرعة الضوء الخيالية هذه لا تذكر عندما نقارنها بالمساحات الشاسعة في كوننا الواسع الرحب، فالضوء سيحتاج إلى 80 ألف سنة لينتقل من نجم على طرف مجرتنا في درب التبانة إلى آخر في طرفها المُقابل، هذا الوقت يحتاجه الضوء لينتقل بين طرفي بيتنا الكبير (مجرة درب التبانة) ترى ما هو الزمن الذي سيحتاجه الضوء لينتقل بين طرفي هذا الكون الرحب علماً بأن مجرتنا هي قطرة في مُحيط عندما نقارنها بكوننا الواسع. 

ولذا فإنَّ نسبية الزمن تظهر جلية وتصبح ذات أهمية عندما نُغادر كرتنا الأرضية، فلولا النسبية ومعرفتنا بها لما أمكن لنا استخدام نظم التموضع العالمية بدقة وذلك لأنَّ أجهزتها تدور حول الكرة الأرض بسرعات عالية جدًا، يتضح منها تأثير نسبية الزمن على دقة هذه الأجهزة.

وحتى تتضح لنا نسبية الزمن وغرائبها فعليك أن تقوم بتأجير سفينة فضاء تُقارب سرعتها سرعة الضوء وأكون أنا على هذه الكرة الأرضية أراقبك، وعندها سيصبح وقتك غير وقتي بل وفي حالات معينة فإنَّ تسلسل الأحداث عندك قد يختلف عن تسلسلها عندي فالحدث الأول عندك هو الثاني عندي وماحدث ثانياً عندي حدث عندك أولاً، ليس لخطأ ما في حواسك أو لخطأ في حواسي، فما تشاهده صحيح لا غبار عليه وما أشاهده صحيح لا شك فيه والسبب في الاختلاف هو أنَّ لكل واحد منِّا زمنه الخاص به، فزمنك تمدد وأصبح يمر بطيئاً ليس إحساسا منك بذلك بل حقيقة وواقعاً، ولهذا فلو رجعت بعد سنوات عدة فستكون أصغر سناً مني (بفرض أن ولدنا في يوم واحد) لأنَّ زمنك وأنت في الفضاء مر بطيئاً ولذا أصبحت سنتك طويلة مُقارنة بسنتي فهرمت أنا أسرع منك.

و إذا أردت أن تكون أصغر سناً من أخيك الصغير، فما عليك إلا أن تقوم بتأجير مركبة فضاء تسير بسرعات تقارب سرعة الضوء وأقض سنوات معينة من عمرك فيها ثم ارجع إلى الأرض وستجد أنك أصبحت أصغر من أخيك الأصغر، وتذكر أن تقدم له الاحترام فلقد أصبح أخوك الأصغر أخا كبيرا تعتمد عليه.

وهكذا انهارت بديهة كنَّا نظن أنَّها يقين لاشك فيه بل أمر لم نكن نتخيل غيره إنِّه الزمن المطلق، فإذا بهذا الزمن المطلق محض خيال لا واقع ولا حقيقة له، فنسبية الزمن أمر لا محيص منه ولا مفر من الإقرار به.

********

لمزيد من المعلومات:

  1. "علم الخيال، كيف صاغَ الفيزيائيون نظرياتٍ تسامي الخيالَ مُتعةً وغرابة؟" محمد يحيى.
  2. "النظرية النسبية وما بعدها للجميع" خير شواهين.
  3. We Have No Idea, A Guide to the Unknown Universe – Jorge Cham, Daniel Whiteson