شاب رائع من البحرين (1)

عبدالله الفارسي

أعتقد أننا خُلقنا هكذا دفعة واحدة، لم تشكلنا الأيام، ولم تصنعنا الأحداث، بل أنزلتنا السماء كقطرة مطر كبيرة ، كصخرة كبيرة، كإنسان كبير!

دائما أُصاب بخيبة أمل في كل مرة أسافر فيها بعيدا عن هذا الوطن العالق في صدري درجة الالتصاق والاختناق. وأستطيع أن أقول إنني غير محظوظ في السفر، غير محظوظ في المطارات، وغير محظوظ في العلاقات أيضا؛ فأنا دائم العثرات، كثير السقطات.

ذات صيف بعيد، وحين سفري إلى ماليزيا لمواصلة دراستي للماجستير بعد فشلي في التجربة الأسترالية، كان المفترض أن يستقبلني في المطار صديق عزيز، ابن مدينتي؛ حيث كنت متواصلا معه حتى لحظة ركوبي لطائرتي الماليزية، مترقبا استقباله لي، وأخذي بالأحضان وإيصالي إلى مكان سكني. لا أدري لماذا أحب الأحضان؟! أعشق الاحتضان، هل لأن الحضن هو المكان الهش الذي يسكن فيه القلب وينبض؟! لا أعلم!

لكن كما يقولون: السفر يسفر لك عن حقيقة النفوس ويكشف لك طبيعتها.

لم يستقبلني ابن مدينتي العزيز، وتركني حائرا حانقا ساخطا مربوطا في المطار أكثر من سبع ساعات كنعجة عجوز في سوق كبير مكتظ بالبشر مزدحم بالمصابيح والعجم.

قررت بعدها المغامرة والاعتماد على نفسي والبحث عن مكان أقضي فيه ليلتي. ولحسن الحظ والذي نادرا ما يرتطم بي، ركبت سيارة أجرة وكان السائق على دراية بمكان المساكن التي غالبا يقطنها طلاب الجامعات خاصة الطلبة العرب.

على العموم كان ذلك السائق حظًا أبيض بالنسبة لي، كان حظا مسروقا من حقيبة الحياة!

أجمل لحظات السفر وأشدها دهشة تلك اللحظات التي تشعر فيها بكل جزئيات المكان الذي تحتويه بعينيك، وتلتقطه بناظريك، فيدغدغ الالتحام بالمكان كل حواسك، ويلامس شغاف قلبك.

إنها علاقة الروح بالجسد؛ حيث الوئام والتلاءم.. حيث عناق العيون بالعيون، والتحام المشاعر بالمشاعر.

عبرت المسافة من المطار إلى المجمع السكني الواقع في وسط العاصمة كوالالمبور كأنني أمتطئ حصانا من السحب، كأنني راكبا بغلة من الضباب.

هدوء الأمكنة.. سخاء الطبيعة.. رحمة الشمس وشفقتها.. ابتسامات الجبال الخضراء.. ودعابات السماء الزرقاء.. أنفاس التلال الرهفاء... ياله من جمال، ويا لها من طبيعة.

كم أحسدكم حسدا عظيما أيها الماليزيون، نعم أحسدكم ولا أغبطكم. طبيعة تحقنك في الوريد وتزودك بالثبات، والارتكاز على الأرض بصلابة وبهجة ورغبة في خوض غمار الحياة، والسعي حثيثا خلف أحلامك البعيدة وغاياتك المستحيلة.

إنها تفرش لك طريق العمر بالورود والقطن والحرير لتمشي حافي القدمين هادئا مطمئنا راضيا عن الكون، متناغما مع القدر، مستسلما للمجهول، راغبا في إلتهام الحياة بنهم وشراسة.

وصلت إلى المجمع السكني الهائل، فقال لي السائق: هذا المجمع يسكنه كثير من الطلبة العرب، حتما ستجد لك غرفة أو سريرًا هنا.

نزلت من سيارة الأجرة شاكرا سائقها الطيب. ثم أنزلت حقيبتي العظيمة الهرمة، الخرفة بالحكايات والأساطير والاخفاقات المتتالية، والإنكسارات المتوالية وجلست فوق بطنها المنتفخ.

جلست أتأمل المكان وما حوله، مارست أحلاما نهارية رشيقة، ونسجت لنفسي هالة من البطولات والهزائم، والفتوحات العظيمة!

لا أدري كم دقيقة مضت علي وأنا بتلك الحالة من التحليق والوهم والفقدان والنزف والسيلان!

نعم.. الانتظار نوع من أنواع السيلان الذي يتدفق من روحك، ناهشا الجزء الأعز منها، ثاقبا العضلة الأجمل فيها.

أكملتُ البقية الباقية من أحلام يقظتي، وانكفأت على أوهامي كأنني مهاجر فلسطيني منكسر، مرميا خلف الحدود يحلم بأرض وبيت وشجرة زيتون.

أفقت من حلمي على نغم لطيف، وصوت خليجي جميل، يقول: السلام عليكم. فرفعت رأسي المثقل بالخرافات والأوهام وتأملت مصدر الصوت، فإذا بشاب طويل نحيل وجهه مطرزا بعينين عربيتين ساحليتين صافيتين، معبأة بالرمال والملح وأصداف البحر. وبسمته كأنها شعاع من شمس باردة، ملامح وجهه هادئة ساكنة  كسكون طفلة عراقية يتيمة!

نهضت فسلمت عليه بحرارة الأعراب، وسخونة الصحراء.. ذاك كان عبدالرحمن الشاب الرائع القادم من البحرين!

... يتبع في الجزء الثاني.