مدرين المكتومية
أن تكون مِعطاءً فهذا يعني أنَّك تتحلى بقيم إنسانية نبيلة، رفيعة المستوى، ورغم أنَّ الخير قائم بين بني البشر، إلا أنَّ البعض يبخل في عطائه بمعناه الواسع، دون حصره في مواضع معينة، فالحب عطاء، والبناء عطاء، وفعل الخيرات عطاء، وبر الوالدين عطاء، والالتزام بالعمل والقيام بالمسؤوليات عطاء، العطاء هو أن نُعطي استجابة لخفقات القلب وذبذبات المخ وصوت الضمير الحي في أنفسنا.
فما أجمل أن نستيقظ في صباحات مليئة بالامتنان والمحبة، نستيقظ وفي دواخلنا رغبة شديدة بمنح الحب والسلام وكل المشاعر الصادقة لمن هم حولنا؛ فالعطاء لا يقتصر على المحسوسات من الأشياء، بقدر ما يُمكن أن يكون أكبر بكثير مما نتوقعه، فرُب دعوة صادقة بأمنية ملحة، أو رغبة في إسعاد الآخرين بابتسامة عريضة تنم عن الحب، هي في جوهرها عطاء بحجم ذلك الحب لا يقدر بأيِّ ثمن ولا يُمكن أن يبتاع في الأسواق لأن الأسواق دائماً للعابرين، والعطاء بالحب لا يحصل عليه العابرون، العطاء يكون بمقدار ما نحمله في دواخلنا من خير وإحسان وجود وكرم، وعندما يكون العطاء من القلب فهو أكبر من أي عطاء مادي يسعى له الكثيرون لإرضاء غيرهم به.
عندما اتحدث عن العطاء، أجدني أتحدث عن أماني ما زالت تسكن الركن القصي من النفس، عن ابتسامة لم يسعفها الوقت للخروج من بين شفتيَّ، عن محب قدم الكثير من المشاعر النبيلة لأجل من يُحب؛ لكن الزمن لم يعنه لتقديم البراهين على حبه. ولأننا في زمن اختلفت فيه المقاييس كاختلاف الأثواب في المتاجر، وأصبح العطاء خاضعاً لمقاييس عدة، فهناك من يُقدم العطاء دون انتظار استجابة، وهناك من يقدمه مستبشرًا بأكثر مما قدم، وثمَّة آخر يرى أن العطاء جزء لا يتجزء من مفهوم المجاملات، وهناك من يجد في العطاء لحظات استعلاء واستبداد نفسي على الآخر من منطلق المنِّ على الآخرين، لذلك بدأنا نفقد القيمة الحقيقية للعطاء التي لا أبالغ حين أصفها بأنها "فريضة إنسانية" واجبة على كل فرد في المُجتمع.
لقد أصبح العطاء يقدم وفق قاعدة "العرض والطلب" أو "خذ وهات" دون أن يكون جزءا من السلوك الإنساني بالنظر لقيمة الأشياء وما تخلفه من أثر نفسي على متلقي ذلك العطاء في صورة من وأذى. ولأنَّ العطاء نبع من نهر الحب الجارف، فلا يجب علينا أن نبخل به؛ بل أن نُمارسه تعبيرًا عن ذلك الحب الذي نكنه للآخرين، فالعطاء جملة من المشاعر الصادقة المتوهجة التي تشتعل بمكنونات عميقة الأثر في الوجدان والعاطفة، ويحتاج للتعبير عنه بقليل من الكلمات، ما لم تكن الأفعال حاضرة، فقليل من الابتسامات يمكن أن ترسم بهجة كبيرة على وجوه حزينة، قليل من النوايا الصافية الطيبة والصادقة قادرة على إنجاز الأعمال وتقريب البعيد، وكسر الحواجز.
وأخيرًا.. العطاء أحد أوجه ثقافة رد الجميل لكل من يعبرون أو عبروا في حياتنا، عندما نُعطي فإنَّ لسان حالنا يقول للآخر بأحاسيس صادقة ونبيلة: إننا نحبكم بقدر لا تعلمونه ولا نستطيع أن نُعبر عنه بالدرجة الكافية.. فآمنوا بالعطاء لأنه حب وحياة، فمن أعطى سيجد حتماً من يُقدم له ما يُريد دون طلب أو مشقة، ومن أعطى يسترد عطاياه حبًا وودًا وألفة، لن يحصل عليها ولو أنفق كنوز الأرض أو عاش ألف سنة!