الحكواتي

أنيسة الهوتية

تقول: كانت ابنتي ذات الثلاثة أعوام تنام على كتفي الأيمن، وأختها الأصغر منها بعام ونصف تنام على كتفي الأيسر، وكُنت أحرِّك كفَّاي وكأنهما شخصيتان واقعيتان تتحدثان معهما، وكان كفي الأيمن اسمه جوجو وهو شخصية مرحة يحب المغامرات واللعب والضحك وهو الصديق الأفضل للكبرى، والتي كانت تسأله الكثير من الأسئلة، وتتفاعل معه ومع نصائحه، خاصة المتعلقة بأهمية تناول الطعام والابتعاد عن الخجل المفرط. وكان كفِّي الأيسر اسمه أميرة، وهي أميرة مدللة تحب الحياة والمرح والطبيعة، وكانت هي الشخصية المفضلة للصغرى، والتي أيضا كانت كأختها تسأل الكثير من الأسئلة، وتتفاعل مع نصائحها خاصة المتعلقة بالعصبية والزعل.

وفي يوم من الأيام، غيَّرت جوجو إلى مكان أميرة والعكس، ورأيتهن غير مرتاحات، وكل واحدة أرادت صديقها الذي تعوَّدت عليه، فأخبرتهن أغمضن عيونكن وعدنَ للثلاثة وسترجع أميرة إلى مكانها وجوجو إلى مكانه، وعندما فعلت ذلك أخذت كل واحدة منهن تمسك كفي وتقبله، وكانت تلك هي حيلتي المفيدة والسهلة في توجيه النصائح لهما، وكانتا تستمتعان بتلك اللحظات كثيراً والوضع استمر هكذا لسنوات عديدة، والجميل أنهما كانتا تتشوقان للنوم مبكراً؛ لأنهما تريدان التحدث إلى أميرة وجوجو، والآن وبعد أن كبرتا قالتا لي إننا كنا نعلم أن جوجو وأميرة خياليان، لكننا كنا نحب أن نعيش معكِ في عالم الخيال، وكنا نستمتع بذلك أكثر من مشاهدة التليفزيون واللعب! والأهم من ذلك كله أن ابنتيَّ الآن تمتلكانِ خيالاً واسعاً ومساحة فكرية جمالية كبيرة، وهن من ذوات الشخصيات القوية، وكذلك من أتى بعدهن فقد غيرت الأسلوب مع تغير الزمن، ولكن الحيلة بقيت هي ذاتها.

وأنا أقول إنَّ هذا هو "باارض" الأم وحيلتها في تعليم أبنائها وإرشادهم بدون صراخ وضرب، و"من كانت لديه حيلة فليحتال"! والتأكد أنَّ الحيلة ليست بذات ضرر على أحد.

أمَّا عن قصص قبل النوم، فيما إذا كانت كتلك بالتواصل المباشر مع شخصيات، أو بسرد قصة قصيرة أو رواية ذات أجزاء عديدة لعدد من المستمعين بهدف التسلية أو توجيه الرسائل، فهي بكل حالاتها كانت في زمان اللا تليفزيون واللا تكنولوجيا واللا سفر أكبر متعة يومية للصغار والكبار، فقد كانت هي الوسيلة الوحيدة للسفر إلى عوالم مختلفة والابتعاد عن الواقع المحتكر للإنسان وعقله وفكره ومشاعره، ودون شك أنَّ الكثير منا قد تجسَّد دور الحكواتي في زمنٍ مضى لمراحل وفترات ومناسبات مختلفة، خاصة في الزيارات الأسبوعية للجدين؛ حيث تتجمَّع العائلة كلها سويًّا، ويستمتعون بسماع الحكايات والمغامرات الواقعية والخيالية. أما الآن، فلا مجال لتفريغ طاقة الحكواتي الفكرية وملحماته الذهنية! فالأجيال الحالية تُفضِّل الرؤية البصرية الافتراضية على أن تستمع وتتخيل ذهنيًّا، ومع ظهور السينما والمسرح والتليفزيون اختفت مهنة الحكواتي الذي كان يجمع بين الأدب والشعر والفن، ويتجمَّع حوله الناس متشوقين له متفاعلين معه، وللأسف ليس الحكواتي فقط بل حتى القصص والروايات أصبحت غير مرغوبة للقراءة في زمن التكنولوجيا الحالي، ولربما الكتب المطبوعة ستنقرض يوما ما ولن تشُم الأجيال القادمة رائحتها، كما لم نشم نحن رائحة ورق البردى والحبر الذي كان في زمنٍ قبلنا!

عن نفسي ما زلت أتذكر القصص التي سمعتها في تجمعاتنا ونحن صغار، أحياناً من الكبار وأحياناً من بعضنا البعض، واكتشفت لاحقا أن أغلبها من الأدب العالمي! وبعضها كانت ملحمات شرقية متنوعة، وطبعا قصص الرعب الخيالية التي كان يرويها لنا حكواتينا متعمدا استخدام المؤثرات الصوتية الخاصة وأسلوب التفزيع المفاجئي حتى يرى من منا الجبان ويضحك علينا لاحقاً!

وليت هذه العادة تعود لكل أُسرة لحميميتها وتلاحمها الجميل.