يوميات جندي إنجليزي!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

في السير والتراجم والمُذكرات الشخصية هناك تاريخ يحكى، وأحداث تُدون، وقصص تخلد ذكراها، في بعض القراءات تجد أنَّ هناك تأريخا غير مُباشر لحدث ما، بطريقة حسب مايعرف بالتاريخ الشفهي أو الشفوي، إذ تجد حقائق لم يذكرها التاريخ المُوثق والمقروء، وطبعاً هنا يأتي دور المؤرخ الحاذق ذي النظرة الثاقبة في تفكيك بنية الحدث وتحليل المعلومة علمياً للوصول لأقرب حقيقة للواقع (1).

في الحربين العالميتين الأولى والثانية شارك الكثير من أبناء المستعمرات مع جيوش الدول المُستعمرة بهذه الحروب الدموية، وبالطبع لن أدخل في سبب التحاقهم بالجيوش وإن كانوا مجبرين أو بمحض إرادتهم، فهذا موضوع آخر، إنما أبين أن التعايش الديني بين المُقاتلين كان في أوجه، ولم يكن غريباً أن تجد مسلما ومسيحيا ويهوديا يقاتلون جميعهم في خندق واحد لصالح أحد الجيوش (أيضاً أرجو ألا ندخل في أسباب تجمعهم تحت راية واحدة هي غالباً دولة مُستعمرة لبلادهم!)، حتى أنَّ أحد المصادر أكد أنه حتى الوجبات الغذائية للجنود كان يراعى فيها هذا المفهوم الديني (2) لذلك كان الإيمان بالله بأشكاله المتنوعة (أقصد بحسب الأديان) حاضرا ولم يغب.

ويُعثر أحيانًا بعد أي حرب على يوميات لجنود خاضوا الحرب، فهناك من يكتب يومياته من الجنود، ونتيجة لظروف الحرب- أياً كان اختلاف الظروف- تبقى هذه اليوميات أو المذكرات في مكانها بانتظار من يعثر عليها أو يجدها، وبالطبع هناك من سليقيها بأقرب سلة مهملات دون النظر حتى إلى محتواها، وهناك من سيأخذه الفضول لقراءة أو تفحص ماوجده، غالبًا تكون اليوميات فيها العاطفة المسيطرة، من الاشتياق للأهل أو الزوجة أو الوطن، أو حتى الخوف من تبعات المعركة، أي أنك أمام أحوال نفسية إنسانية لاتستطيع السطور والعبارات ترجمتها لإنسانيتها الغزيرة.

من المفارقات أنَّ المقاتلين في الحروب الأوروبية كانوا نخبة القوم من طبقة النبلاء، ويعتبرونها شكلا من أشكال التباهي والرفعة لذلك تجد هناك مسميات بكتائب وسرايا الجيوش باسم كتيبة الفرسان أو سرية الفرسان، ويحضرني هنا قول صموئيل هاينز إذ يرى أنَّه قد يكون هناك سبب آخر غير مُباشر لهذا التهميش (يقصد تهميش الجنود العاديين ممن ليسوا من الطبقات الرفيعة في المجتمع) يعود لدور الطبقة الوسطى الأوروبية في توثيق يوميات الجنود. فقبل الحرب العالمية الأولى كان الجيش البريطاني يتكون من نخب أرستقراطية، وكانت الحرب ضمن التقليد القديم مهنة للرجال المُهذبين (3).

وعودة للجنود المهمشين أو حتى غيرهم من الطبقات الاجتماعية، وصلتني رسالة إلكترونية قبل أيام بهذا السياق؛ يحكي جندي إنجليزي في يومياته:

"‏قتلت جندياً ألمانياً في الحرب العالمية الثانية، وحين فتشته وجدت في جيبه ورقة كتب عليها ألمانيا ستنتصر لأنَّ الله معها. فارتجفت من الخوف والدهشة، لأنهم أخبرونا أنَّ بريطانيا ستنتصر لأنَّ الله معنا!".

يتبين بجلاء أن الحرب كان يقوم بها جنود من الطرفين من المؤمنين بالله، وكلٌ منهم يفسر إيمانه بحسب معتقده الديني، وربما ظروفه، تخيل جندياً هندياً مسلماً يُقاتل مع الجيش البريطاني آنذاك أمام جندي مسلم آخر من بلاد المغرب يُقاتل مع الجيش الفرنسي!

وكل منهم يسـأل الله الشهادة، ويعتقد أنه على حق، وبأن الله سينصره، وبنفس الوقت هذان الجنديان يُقاتلان تحت راية لاتمثل دينهما المشترك، بل ربما تمثل راية دينية أخرى، أو علم سياسي لبلد غير مسلم!

هل نعتبر هذا استرزاق أم جهاد أم على طريقة "مكره أخاك لا بطل"؟

الأكيد أنَّ في الحروب ضحايا من الجنود كما فيها ضحايا مدنيين، وفي الحرب تتكون كتلة من أعراق متفرقة ببوتقة واحدة!

في الحرب تجد العجيب والغريب!

___________________________________________

  1. للاستزادة أنقل هذه الفقرة من مقال: ديفيد كراوساند المنشور في الصفحة العربية لقناة DW بتاريخ 2019/ 12 / 16 بعنوان : الحرب العالمية الأولى ـ التعايش الديني في خندق واحد:

"أما البريطانيون فقد جلبوا وحدات من كافة منطقة الكومنويلث ـ بما في ذلك الهند. وكان بينهم مسلمون وسيخ وهندوس. وفي المقدمة المسلمون الذين شكلوا ربع الوحدات وكانوا منخرطين منذ البداية في المعارك. وأثناء المعركة الأولى حول إيبرس التي استمرت من الـ 20 أكتوبر حتى الـ 18 نوفمبر 1914 وصلوا في الوقت المناسب لدعم الوحدات البريطانية المنهكة. وانطلاقاً من هذا التوقيت على أبعد تقدير اعتُبر الجنود الهنود بقبعاتهم وببدلاتهم الملونة أبطالا ومنقذين للجيش البريطاني. وعلاوة على هذا بذل الضباط الجهد لتزويد الوحدات بالطعام حسب شعائر الأكل الدينية. وحتى في الأسر الألماني كان مرحبًا بهم. وفي محاولة لجلب السجناء المسلمين إلى جانبهم تم في معسكر اعتقال في بلدة فونسدورف (Wünsdorf ) بالقرب من برلين تشييد أول مسجد".

  1. نفس المصدر أعلاه.
  2. صموئيل هاينز: مؤلف كتاب "حكاية الجند.. الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين".