المحكمة الجنائية الدولية.. اختصاصاتها وآليات عملها

أحمد النوفلي **

** باحث في العدالة الجنائية الدولية

المحكمة الجنائية الدولية أو ما يُعرف بـ"ICC هي هیئة قضائیة جنائیة دولیة دائمة ومُستقلة عن منظمة الأمم المتحدة، وهي مُكملة للولایة القضائیة الوطنیة، أنشئت باتفاقیة دولیة لمُتابعة ومُلاحقة الأشخاص الطبیعیین المسؤولین عن الجرائم الدولیة الأشد خطورة والتي يهتز لها الضمير الإنساني والمدرجة في المادة الخامسة من نظامها الأساسي. يقع مقر المحكمة في مدينة لاهاي بهولندا، وقد تمَّ تأسيسها بمقتضى مُعاهدة روما لسنة 1998 والتي دخلت حيز النفاذ سنة 2002.

وقد كانت المحكمة- ولا زالت- موضع خلاف وجدل بين أعضاء المُجتمع الدولي منذ المفاوضات الدبلوماسية لتأسيسها، فغالبية الدول الكبرى في مجلس الأمن الدولي كالولايات المُتحدة الأمريكية وروسيا والصين مازالت غير مُصادقة على النظام الأساسي للمحكمة! بينما دول أخرى لها مواقف متباينة من نظامها الأساسي توقيعاً أو تصديقاً أو انضماماً، وقد تعددت واختلفت الأسباب وراء ذلك فمنها من يتشبث بمبدأ السيادة ومنها من يتخوف من تحكم مجلس الأمن الدولي بالمحكمة، وغير ذلك من الأسباب السياسية والقانونية التي تتمسك بها الحكومات، خصوصاً تلك المتورطة في جرائم حرب وعدوان، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن ما مدى قدرة المحكمة وفاعليتها في تحقيق العدالة الجنائية الدولية وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب؟

في الحقيقة هذا سؤال ليس من السهل الإجابة عليه لكننا سنُحاول مقاربته في هذه المقالة العلمية من خلال التطرق إلى اختصاصات المحكمة وآليات تحريك الدعوى أمامها.

أولاً: اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية

ينصرف الاختصاص الزماني للمحكمة على الجرائم المُرتكبة بعد سنة 2002 أي بعد دخول نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة حيز النفاذ وبالتالي لا يُمكن للمحكمة أن تنظر في الجرائم التي ارتكبت قبل ذلك.

فيما ينصرف اختصاصها المكاني على الدول المُصادقة على نظامها الأساسي والتي يصل عددها لحد الآن حوالي 123 دولة، منهم 33 دولة إفريقية و19 دولة آسيوية، بالإضافة إلى 18 دولة من أوروبا الشرقية و25 من أوروبا الغربية و28 من أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي[1]. ويبقى العالم العربي من المناطق الأقل تمثيلاً في المحكمة الجنائية الدولية؛ حيث إنَّ خمس دول فقط صادقت على نظام روما الأساسي لحد الآن وهي: الأردن، جيبوتي، تونس، جزر القمر، وآخرهم كانت فلسطين سنة 2015 بعد حصولها على حق الانضمام إلى المحكمة عندما نالت صفة الدولة المُراقب في منظمة الأمم المُتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاختصاص المكاني للمحكمة لا ينحصر فقط على الدول المصادقة على نظام روما الأساسي، وإنما هناك إمكانية انعقاد الاختصاص حتى على الدول غير المنضمة، وذلك من خلال مجلس الأمن الدولي، وهو الأمر الذي سنوضحه في هذه المقالة، ولكن قبل ذلك دعنا نتطرق للاختصاص النوعي للمحكمة الذي حددته المادة 5 من نظامها الأساسي؛ حيث حصرته في أربع جرائم دولية تُعتبر من أبشع الجرائم المحزنة التي يهتز لها الضمير الإنساني وهي:

  • جريمة الإبادة الجماعية: وقد عرفها نظام روما الأساسي في المادة (6) بـأنها "أي فعل من الأفعال التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، إهلاكاً كلياً أو جزئياً ومن ذلك: "قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة. إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً. فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى..".
  • الجرائم ضد الإنسانية: حسب المادة (6) من النظام الأساسي المذكور تعتبر جرائم ضد الإنسانية تلك الأفعال التي ترتكب ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وتتضمن مثل هذه الأَفعال القتل العمد، والإبادة، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسري للسكان وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها.
  • جرائم الحرب: وهي كل المخالفات والانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والانتهاكات الجسيمة لأعراف وقوانين النزاعات المسلحة.
  • جرائم العدوان: أخذت هذه الجريمة وقتا طويلا لتعريفها وقد كانت سبباً وراء عدم مصادقة مجموعة من الدول، ولهذا فقد تم إدراجها ضمن أحكام المادة (5) لكن مع إيقاف التنفيذ؛ وذلك إلى أن يتوصل المجتمع الدولي إلى تعريف متفق عليه للعدوان. وهو ما تحقق سنة 2010 بمدينة كمبالا.

وتعرف المادة 8 مكررا من نظام روما الأساسي "جريمة العدوان" بأنَّها: قیام شخص ما، له وضع یمكنه فعلاً من التحكم في العمل السیاسي أو العسكري للدولة أو من توجیه هذا العمل، بتخطیط أو إعداد أو بدء أو تنفیذ فعل عدواني یشكل، بحكم طابعه وخطورته ونطاقه، انتهاكًا واضحًا لمیثاق الأمم المتحدة. وقد نصت كذلك على الأفعال التي تنطبق عليها صفة العدوان.

إذاً فالاختصاص النوعي للمحكمة الجنائية الدولية يشمل الجرائم الكبرى التي تُهدد الأمن والسلم الدوليين، وتتعارض مع قيم الإنسانية ومبادئ الأخلاق ومع كل الشرائع والأديان. والمحكمة يُمكن لها أن تنظر قضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مُباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مُباشرة فيها، كالمسؤولية عن التخطيط لها أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها.

ثانيًا: آليات تحريك الدعوى أمام المحكمة

حدد نظام روما الأساسي في المادة (13) الجهات التي تقوم بتحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهي:

  • الدول الأطراف: والمقصود بالدولة الطرف حسب المادة 02 فقرة 01 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات 1969، هي كل دولة طرف وافقت على أن تلتزم بالمعاهدة وأصبحت المعاهدة نافذة عليها. إذاً فالدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية هي الدول التي صادقت على نظام روما الأساسي، ونخص بالذكر هنا المصادقة وليس التوقيع، لأنَّ التوقيع لا يعتبر ملزماً للدولة وإنما هو فقط مجرد موافقة مبدئية. إذا فالدول المصادقة لها سلطة إحالة أي جريمة من الجرائم (التي ذكرناها أعلاه) إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ليحقق فيها ويقرر ما إذا كان هناك وجه لإقامة الدعوى من عدمه. وعلى الدولة في هذه الحالة أن تزود المدعي العام بكافة الظروف المتعلقة بالجريمة، والملابسات الخاصة بالمتهمين وكل الأدلة التي من شأنها أن تساعد المدعي العام على القيام بمهمته.
  • المدعي العام: تضمنت المادة (13) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الإشارة إلى أن المدعي العام يكون له سلطة تحريك الدعوى الجنائية من تلقاء نفسه ضد المتهمين بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 05 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقد شكلت هذه الصلاحية استقلالية واضحة لجهاز الادعاء العام من شأنها أن تقوي المحكمة وتجعلها غير خاضعة لإرادة الدول الأطراف فقط.
  • مجلس الأمن الدولي: لقد أوكل ميثاق الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن مهمة المحافظة على السلم و الأمن الدوليين، ومنحه سلطات واسعة في هذا الشأن .وانطلاقا من نفس المهمة ولتحقيق نفس الغرض منح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مجلس الأمن سلطة إحالة"الحالة" إلى المدعي العام للمحكمة إذا رأى أن ارتكاب جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة يُهدد السلم والأمن الدوليين، وبالتالي لا يشترط أن تكون الدولة طرفاً في معاهدة روما باعتبار أنَّ المسألة مُتعلقة بالأمن والسلم الدوليين، وهو الأمر الذي حدث فعلياً مع الرئيس السوداني السابق عمر حسن أحمد البشير في قضية دارفور، أو مع العقيد الليبي السابق معمر القذافي ونجله سيف الإسلام.

وفي حقيقة الأمر تعتبر هذه السلطة الممنوحة لمجلس الأمن سيفاً ذا حدين فقد تستخدم كآلية من آليات القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب وضمان حماية عالمية لحقوق الإنسان، وقد تستخدم كذلك كآلية لتحقيق الأهداف والمصالح السياسية لبعض الدول كتلك المتحكمة في مجلس الأمن الدولي، خصوصاً وأنَّ التجربة أظهرت أن مجلس الأمن أحال فقط القضايا التي تتعارض مع السياسة الخارجية الأمريكية، بينما الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة وفي الضفة الغربية لم يعر لها اهتماما!

لكن هذا لا يدل على أنَّ المحكمة الجنائية الدولية غير مستقلة وأنها مسيسة وخاضعة لأهواء مجلس الأمن الدولي (كما يدعي البعض)، فينبغي معرفة أن القضايا التي يحيلها مجلس الأمن تتطلب موافقة جهاز المدعي العام للمحكمة الذي يقوم بدراستها والقيام بالتحقيقات الأولية للتأكد من صحة الجرائم المرتكبة وأنها تندرج ضمن الاختصاص النوعي الوارد في المادة (5) من معاهدة روما.

وختاماً نقول إن الإنسانية بحاجة ماسة إلى محكمة جنائية دولية لتحقيق العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب وحماية حقوق ضحايا النزاعات المسلحة والانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا من خلال تكاثف جهود المجتمع الدولي وتضامنه وتعاونه مع المحكمة الجنائية الدولية والمصادقة على نضامها الأساسي. وهذا هو السبيل الوحيد للقضاء على هذه الثقافة العالمية وهي ثقافة الإفلات من العقاب.

 


[1] - انظر موقع الجمعية العامة للدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية على الرابط التالي: https://asp.icc-cpi.int/

الأكثر قراءة