د. عبدالله باحجاج
"رُبَّ ضارة نافعة".. مقولة تنطبق الآن على كل الإعلاميين العمانيين "المهنيين" الذين اشتغلوا على أسمائهم كثيرا في إطار الإعلام الحكومي، حتى كسبوا صدقية ومصداقية، أو حققوا تأثيرا على الرأي العام، ثم وجدوا أنفسهم فجأة وإجباريًّا بعيدين عن مطابخهم الإعلامية، وهم في قمة عطائهم، وقمة حاجتهم للوظيفة، فمثلهم لن يركنوا للتقاعد بسهولة، فمهنتهم وحبهم لها ستدفع بهم إلى خيارات عديدة حتى يجدوا ذواتهم من جديد.. فهل تجاوزوا الآن مرحلة الصدمة أم لا يزالون غارقين فيها؟ وهل خياراتهم داخلية أم خارجية؟
يُفترض أن تتم الاستفادة من هذا الجيل المهني في الكثير من المجالات القيادية والتأطيرية؛ فمثلا: عمليات التأهيل والتدريب، حيث هناك مركز إعلامي كبير للتدريب تابع لوزارة الاعلام، فلماذا لا يتم التعاقد معهم عوضا عن إحضار كوادر من خارج البلاد؟ وبعضهم يمكن أن تستفيد منهم كليات وأقسام الاتصال والإعلام: الحكومية والخاصة، فما تخرجه كليات وأقسام الصحافة في الداخل والخارج من كوادر إعلامية سنويا، وما تحتاجه المؤسسات الإعلامية والصحفية من إعادة تأهيل كوادرها وأطرها بصورة دورية، كان ينبغي على الجهات المعنية أن تحول هذه الكفاءات الإعلامية إلى مدربين ومؤطرين، بدلا من التعاقد مع أجانب برواتب وسكن وإقامة وتذاكر وتأمين صحي.
لذلك؛ الذي كان وراء نصيحة عدم التعاون مع المتقاعدين، لم يكن ملمًّا بالتفاصيل والاحتياجات التحتية، كما أنه بذلك يصدر حكما قاسيا غير مدروس بعناية، وله تداعيات اجتماعية، فهو يحكم على المتقاعدين بعدم تحسين أوضاعهم المالية ومن ثم المعيشية، بحُجة أن هذه الفرص أولى بها الباحثون عن عمل، وهذه حجة لو كانت ستطبق يمكن قبولها، لكن هل استفاد الباحثون عن عمل منها؟ لن يستفيدوا منها، لأن التقاعد ليس وراءه الإحلال، وإنما تقليل أعداد موظفي الدولة، وحتى هذا الهدف لم يتحقَّق. وهناك أيضا جانب فني؛ وهو أنَّ الكفاءات والخبرات، يكمن استحقاقها، في عمرها الزمني؛ فالإعلامي مثلا بقدر ما يتميز بالموهبة، لكنه يملك جناحا مهنيا ثانيا، وهو الخبرة، لذا فالموهبة لن تجدها إلا بصعوبة بالغة، والخبرة تحتاج للزمن.
ويبدو أنَّ العقل قد توقف عن التفكير في مثل هذه القضايا الوطنية المهمة.. على العموم، كل صاحب مهنة لن يكون حبيسَ داره، ولن تذرف عيناه دموعا، فجاذبية مهنتهم وأسماؤهم المهنية ستدفع بهم الى إعادة تدوير مواقعهم المهنية في الداخل والخارج. والخيار الأخير معطل الآن بسبب جائحة كورونا الذي أغلق الحدود أمامهم، وهنا كذلك مكان المقولة سالفة الذكر "رب ضارة نافعة"؛ فكورونا قد أجَّل خيار الهجرة، وكبح جماحها، ولربما تفتح لأصحابها أو تنفتح لهم آفاق داخلية، فهجرتها بالحمولة السيكولوجية المقهورة -حتى بدونها- قد تُستغل من قبل الخارج بعيدا عن المهنة، خاصة في الظروف السياسية الراهنة.
ويظل الخيار الأول متاحا، وهو الآن يبرز على مشهدنا الإعلامي الخاص، فقد وجد البعض منهم مساره فيه، وهذا سيعزز المشهد الإعلامي المستقل، وينبغي أن يرمي بسبع حجرات في مياه الإعلام الحكومي. وهنا مجموعة تساؤلات لابد من طرحها؛ هادفين من ورائها إلى تحريك هذه الذهنيات بما يستوجب عليها من أدوار جديدة خارج نطاق المشهد الإعلامي الحكومي.
وأبرز هذه التساؤلات: ما مدى قدرتهم على نقل مهنتهم من خطاب الإعلام الحكومي إلى خطاب الإعلام الخاص؟ وفي الوقت نفسه تعزيز استقلالية وحيادية هذا القطاع بعد أن عاشوا وتعايشوا لعقود مع مركزية الإعلام الحكومي؟ فهل سيتحولون إلى قوة ضغط قوية بعدما عايشوا وتعايشوا مع حقب إعلامية حكومية مختلفة، تسيَّد فيها التوجيه السياسي -وفي حالات كثيرة- على المهنة، أم سينقلون الخطاب نفسه إلى الإعلام الخاص؟ وهل سيرفعون التنافس داخل المشهد الإعلامي الحكومي والخاص؟
وفي المقابل، تطرح تساؤلات على القطاع الإعلامي الحكومي مثل: ما مستويات تفاعله مع حالة التنافس في الإعلام الخاص؟ وما حجم تطوره حتى يواكب فكر وأجندات النهضة المتجددة؟
تتوقَّف الإشكاليات التي تطرحها تلكم التساؤلات على بوصلة انتقال جيل الإعلاميين من القطاع الإعلامي الحكومي إلى نظيره الخاص؛ فالمعوَّل عليهم قيادة التنافس والتفاعل بين القطاعين الحكومي والخاص، ونجاحه يكمن في هذه المنطقة، وهذه رسالة للزملاء الذين يجددون الآن صلاحياتهم المهنية عبر إذاعات الراديو الخاصة، بعضهم انضموا للقائم منها، وآخرون يؤسسون محتوى إعلاميا جديدا، سمعيا وقريبا مرئيا، والكثير يفكر في تأسيس قنوات أخرى من زوايا جغرافية غير مسبوقة.
وتلكم ظاهرة طبيعية لمسار التقاعد، فلكل فعل ردة فعل، لكن ردة الفعل ينبغي أن تكون محكومة بالانتقال سريعا للفعل الذكي، فليس المطلوب من الإعلاميين أن ينسخوا صورة الإعلام الحكومي في الإعلام الخاص. فهنا لن يتميزوا، وسيغرقون فيه، ولن تظهر ملامحهم فيه، وإنما المطلوب منهم تقديم صورة أخرى للإعلام الخاص، أكثر شفافية وأعمق رؤية، تميل باتجاه الأصوات الضعيفة في الدولة التي لا يمكن أن ترفع أصواتها للدفاع عن مصالحها، مقابل الأصوات القوية التي أصبحت الآن تعيد تشكيل ذواتها أو تنتج أبناءها بديلا عنها في مواقع صناعة القرار، وهذه مسألة قد أصبحت متعاظمة، وقد برزت لنا بجلاء في أكثر من مسار يعاد تأهيل نُخَبه من جديد، ربما لدواعي طمأنة أو كسب طبقة التجار.
لكن.. هل وراءها اتفاق بعودة ثرواتهم إلى البلاد بعد هجرتها للخارج؟ فمرحلتنا الوطنية الراهنة في أمسِّ الحاجة لها الآن، وهل المؤسسات الرقابية الحكومية ستتأثر بعودة النفوذ التجاري إلى مواقع صناعة القرار؟ التساؤل الأخير، هو مناطٌ تكليفيٌ للإعلام الخاص "الإذاعي والتليفزيوني" دعما ومساندة لتوجهات جادة في الصحافة المكتوبة "جريدة الرؤية نموذجا"؛ وعليه تعول ممارسة رقابة وطنية عالية التجرد والمهنية، خاصة وأنَّ الرؤية المستقبلية "عمان 2040" تعطي مساحة كبيرة للرقابة الإعلامية على تنفيذ الرؤية، وهنا كبرى المسوِّغات التي تمنح كل الإعلاميين والصحفيين الحق في توسيع مساحة الحرية الملتزمة، وتعزيز استقلالية القطاع الإعلامي والصحفي الخاص، وحياديته من أجل نجاح الرؤية الإستراتيجية.
وتتوافر لدينا الآن كل المقومات؛ كفاءات مهنية قديمة/جديدة، تحولت للإعلام الخاص، ولديها الثقافة وكل الخلفيات والأسرار التي تُعِينها على المساهمة في نهضة الإعلام الخاص، وكذلك عدم تأثر الإعلام الخاص بمراكز النفوذ المالي والسياسي على الأقل خلال المدى المنظور، وهذه خاصية تصبُّ في صالح الإعلاميين الذين جاءوا من الإعلام الحكومي إلى الإعلام الخاص؛ لأنَّ محركهم سيكون مهنيًّا؛ لذلك لا بُد أن يتسلحوا بالجرأة، وهى شرط جوهري لبلوغ الحرية والاستقلالية -طبعا- في إطار التشريعات الإعلامية، وتنفيذا للأجندات الوطنية، ومصالح مجموع الشركاء في الدولة، وعلى رأسهم المجتمع..إلخ.
فهل يُدرك كل إعلامي مهني -يجدد ذاته الآن في الإعلام الخاص- المسؤوليات الملقاة على عاتقه؟ وما حجم التطور الذي يُفترض على الإعلام الحكومي مواكبته في العهد الجديد؟ وهل سيقبل المنافسة أم سيستسلم لها؟!
التتمَّة في الجزء الثاني من هذا المقال.