الغلو والتطرف والحاجة للمواجهة الفكرية (2ـ2)

عبدالله العليان

في مقالي الأسبوع المنصرم، قدَّمتُ أولوية المواجهة الفكرية على المواجهة العسكرية، أو أن تتماهى معها؛ لأن المسألة في أساسها فكرية، وأنَّ مسار الغلو عند هؤلاء أسبابه أقدم على التطرف والعنف، وهي نتيجة للرؤية القاصرة للنصوص الدينية، أو رُبما أسبابها أخرى دفعت لهذا الغلو والتطرف، وقد تكون سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو غيرها من الأسباب، وإن كانت بغطاء ديني لتبرير استعمالهم للعنف والتطرف.

ولا شكَّ أنَّ هذا المسار الفكري الذي انحدر إليه بعض الشباب في بعض مُجتمعاتنا العربية، واختاروا هذا الطريق سببه -كما أشرت الأسبوع الماضي- أنَّ الفكرة الخاطئة سبقت هذه الأفعال. لكنَّ النظرة الغربية لظاهرة التطرف والغلو في الوطن العربي بالأخص، لا تلقي بالا لهذه النظرة التي نتحدث عنها نحن، في مسألة المواجهة الفكرية الحوارية مع هؤلاء؛ فالكثير من الغربيين المهتمين بهذه الظاهرة السلبية، من السياسيين أو الباحثين، أو حتى من الصحفيين، لهم نظرة أخرى، فيها الكثير من الأحكام المسبقة، تجاه الإسلام والمسلمين، ويرون أنَّ التطرف والغلو والعنف يكمنُ في نصوص هذا الدين، ويقلِّلون من دور الأسباب الأخرى الدافعة لذلك، وقد كُتبت ونُشرت الكثير من الدراسات والأبحاث، في مسألة أصل العنف والتطرف في الوطن العربي، وإلصاق ما يجري بأصل الإسلام ونصوصه، وهي نتيجة للخلفية الثقافية الماضية!

وبعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، ازدادت الكثير من الكتابات والأطروحات الفكرية والسياسية، عن الخطر الأخضر المفترض -بعد سقوط الخطر الأحمر- وأول هؤلاء من كتب فيها، كان المستشرق المعروف برنارد لويس في دراسته الشهيرة: "جذور السخط الإسلامي"، ثم تلاه ذائع الصيت صموئيل هنتجتون في أطروحته: "صدام الحضارات" التي تحوَّلت إلى كتاب بهذا الاسم. وهذان الكاتبان يقدمان لصناع القرار في الغرب المعلومات والتقارير، وفق ما يرونه جديرًا بالاهتمام، وإعادة النظر في الحراك الفكري والسياسي الراهن في العالم، وأكد على هذا ما قاله الكاتب الفرنسي المعروف إيدوي بلينيل -صاحب كتاب "من أجل المسلمين"- عندما قال: "إن قضية الإسلام يتم توظيفها بكثافة لصناعة عدو"!

والحق أنَّ بعض المفكرين الغربيين، ينتقدون هذا الحشد الفكري والسياسي ضد الإسلام المسلمين، ومن هؤلاء المؤرخ وعالم الاجتماع إيمانويل تود في كتابه "ما بعد الإمبراطورية"؛ حيث انتقد تصوير الإسلام بأنه: "شرير، ومؤذٍ ومثير للاضطرابات والمشاكل"، ومعرباً في مقولة أخرى عن أن الإسلاموفوبيا هي "البحث عن كبش فداء". والواقع أن التوظيف السياسي وافتراض عدو، دون مبررات ومؤشرات واقعية وصحيحة- كما جرت بقوة في أوائل التسعينات من القرن الماضي، بعد انتهاء الحرب الباردة- كأنها دعوة للأخر المختلف للنزال والصراع، وانه العدو المقابل الذي يجب النظر إليه نظرة استعداء وترقب واستفزاز. وهذه من الأساليب الاستخباراتية، إثارة التوتر وإشاعة الاختلاف والصدام، ولذلك نشطت الكثير من الكتابات والتعليقات من العديد من المعلقين الصحفيين، لإثارة المخاوف من العدو الجديد الذي سيحل محل الخطر الشيوعي.

ولا شك أنَّ الآراء أو الأحكام المسبقة، خضعت لعوامل تاريخية قديمة، يتم استعادتها من أجل بقاء نزعة الصراع والتوتر قائمة ومتحركة، وتعني أن على الغرب ألا ينام قرير العين، بعد انهيار المعسكر الشرقي، ولا بد من خلق عدو بديل، يكون لنا معه صراعات ومساجلات لاستمرار المخاوف مستقبلاً، صحيح أن هناك موروثاً سلبياً بين الإسلام والغرب، وهذه قضية تاريخية مرت من قرون، وحدثت لحضارات وثقافات كثيرة عبر التاريخ، ولا تخلو في هذا الكون بين شعوب وثقافات جرت بينهما حروب وصراعات عديدة؛ بل إن صراع المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في القرن الماضي؛ حدث بين دول تنتمي إلى ديانة وثقافة واحدة، مع تعدد اللغات، وأيضًا ما جرى في الحربين الكونيتين في القرن الماضي، وكانت أطرافها من الغربيين أنفسهم، وحصدت عشرات الملايين من القتلى، فما بالنا عندما يجري بيننا وبين الغرب، من اختلافات لأسباب سياسية، أو اقتصادية، إلا أن الإشكال يتمثل في أن الخلاف بين الإسلام والغرب، خضع للكثير من المغالطات، والتعميمات التي جعلت "الخوف من الإسلام" قضية بارزة ورائجة حتى الآن، رغم أن العرب والمسلمين هم الطرف الأضعف، والغرب يدرك ذلك، لكن هذا يجري لأهداف ومرامٍ يتم تحاشي الحديث عنها، أو يتم تجاهلها تماماً!

لذلك؛ فانَّ الرؤية الغربية تتناقض مع رؤيتنا تجاه أهمية المواجهة الفكرية، مع التطرف الغلو، فلديهم النظرة قاتمة وسلبية وأحكام مسبقة، وفي المقابل لا يعاملون الجماعات المتطرفة في الغرب، بنفس النظرة، فمثلا رؤيتهم للجماعات المتطرفة، كحركة "بادر ماينهوف" (أو الجيش الأحمر) في ألمانيا، وحركة الجيش الإيرلندي مع بريطانيا، أو ما فعلته الميليشيات الصربية في البوسنة والهرسك... أو غيرها من الجماعات المتطرفة في الغرب، ويرون أهمية الحوار والمقاربات الأخرى الايجابية، لذا من المهم أن تكون لنا أيضا نفس المقاربات الفكرية بقدر المستطاع، بهدف فتح أبواب الحوار والتعاطي الايجابي، والتقريب بدلا من التهميش والإقصاء والاستبعاد.