خيزران أبي

 

 

عبدالله الفارسي

 

تُوفي أبي في العام 1997، مات قبل أن يبلغ الشيخوخة، مات صلباً، مات واقفاً، لا أذكره هاب أحدًا أو انحني لأحد، رحل قبل أن يستمتع بالحياة معنا، وقبل أن أستمتع أنا بالحياة معه، أو أتلذذ بمُرافقته في هرمه وشيخوخته، مات قبل أن أسدد له جزءا يسيرا من دينه عليَّ، وقبل أن أمنحه وفاء وحبا وبرا واجبا عليّ.

مات قبل أن أدفع له شيئاً بسيطاً من فاتورته الباهظة التي دفعها لأجلي، وحرقها في رعايتي وتربيتي. مات أبي ولم أتعلم شيئاً من قوته، ولم أسرق شيئاً من صلابته، أسأل نفسي دائماً: لماذا ورثت كل صفات أمي؟ ولماذا لم أرث صفة واحدة من صفات أبي؟ هل أراد القدر أن أعاني وأتوجع كما عانت وتألمت أمي؟

لقد ورثت قلب أمي، ورثت طيبتها.. شفقتها.. حنانها.. ورهافة روحها.. وبكاءها.. وقلقها.. وحزنها العميق.. وكل عذاباتها.. لم أتمكن من وراثة أو الاستحواذ على صفة واحدة من صفات أبي، لأقاوم بها الحياة اللعينة هذه.. وأكافح قسوتها وشرورها وعفنها.. لم أكسب شيئاً من قوته، ولم أتعلم شيئاً من عناده، ولم أحظْ بشيء من شجاعته ولامبالاته.

حين أتذكر هذه الحادثة أشتاق لأبي، يجرفني حنان إليه، تعصرني لهفة وتوق نحوه، أشتاق إلى عصاه، أتوق إلى حبله، أحن إلى قبضة يده، أشتهي ضرباته وقسوته وعنفه، لقد أدبني أبي فأحسن تأديبي.

كان لنا جار يسكن على مقربة منِّا، رجل كبير في السن، أعزب لم يتزوج أبداً، ولا يحب الحديث عن الزواج، ويكره الكلام مع النساء أو الحديث عنهن؛ فعاش حياته بعيداً عنهن، ومات سعيدا مطمئناً بدونهن!

رأيته مرة يحمل "مذياعا" صغيرا جديدا، كان يصدح بصوته الجميل، ويبرق بأضوائه الجاذبة، وأنغامه الصادحة.

كنت شيطاناً صغيرًا مزعجاً، لكن كان لدي صديق أكثر شيطنة وعفرتة وخبثا، كنَّا شياطين الحارة وعفاريتها الصغار؛ فخطط صديقي لسرقة راديو جارنا المسكين، ورغب في الحصول عليه والاستمتاع بصوته وأغانيه.

كنت رافضاً الفكرة، فأنا رغم أنني كنت شيطانا صغيرا إلا أنني لا أمارس السرقات بكافة أنواعها.. لكن كما يقولون "الصاحب ساحب"، لقد دهاني ذلك الإبليس الصغير، وسحبني معه، وأقنعني بأنها ليست سرقة وإنما هي مُجرد تسلية، سنأخذه لبضعة أيام ثم سنعيده إلى مكانه.

خططنا لعملية السطو، وكانت عملية سهلة، لم تتطلب منِّا أجهزة ولا أدوات ولا أسلحة. فالرجل كان ييبع السمك طوال الصباح؛ فهو مصدر رزقه الوحيد، فيكون بيته مشاعا مباحا للصوص الصغار، وللقطط الكبار.

قفز صديقي من فوق باب البيت الخشبي القصير، وسقط في داخل البيت، والذي كان من سعف النخيل الصلب. وأنتظرت أنا مراقباً حارساً المكان، حتى أنبهه وأصفِّر له في حالة مرور أحدهم أو اقترابه من البيت.

صدفة مرَّ أحد رجال الحارة فرآني واقفاً، متأهباً كقطة شرسة، فهم مُباشرة أنَّ هذه الوقفة وذلك الاستعداد ليس أمرًا طبيعياً، فقال في نفسه: حتماً هذا العفريت الصغير يخطط لعمل شرير!!

وذهب في طريقه بعد أن خزَّن صورتي في رأسه، وعرف هويتي، وعرف أبي، وعرف ما هي فصيلتي وقبليتي. قفز صديقي حاملاً الراديو في يده وسقط على الأرض كجرو رشيق. هربنا إلى مكان آمن .. وأخذنا نعبث بالمسروق الجميل.. واستمتعنا به أيما استمتاع، وبعد أن شبعنا ومللنا منه وضعناه في كيس ودفناه تحت التراب، ووضعنا على التراب علامة وشاهدا لنعود إليه في اليوم التَّالي.

اكتشف الرجل أنَّ هناك من سرق الراديو، فأخبر الجميع ونشر الخبر في الهواء وعلى الأثير وسار الخبر في الحارة وفي الفريج. فظهر الشاهد الوحيد الذي رآني وخزَّن صورتي في رأسه، ولم تختفِ ملامحي عن عينه.

فقال: لقد رأيت العفريت الصغير ابن فلان واقفا متربصاً أمام الباب!!

وصل الخبر إلى مسامع أبي، وحاولت أمي أن تصور له الخبر كأنَّه شائعة، ونفت الواقعة، وسترت عني الجريمة، واجتهدت لتدفن الفضيحة.

كان ذلك مساءً.. فتركتي أبي أنام تلك الليلة، وأستمتع بظلامي وأهنأ في لحافي.

وفي الصباح نهضت كعادتي قاصداً الخروج للعب مع رفقتي والمرح عند صحبتي، فوجدت أبي ينتظرني مستنداً على كتف الباب وفي يديه خيزرانة ناعمة يهزها في الهواء، ويُلاعب بها السماء. وبجانب الجدار كان هناك عمود خشبي مغروس في الأرض وبجانبه حبل غليظ لم يسبق لي أن رأيتهما من قبل. كيف نبت هذا العمود فجأة في فناء بيتنا؟!

فهمت القصة وتوقعت النتيجة واستسلمت لقدري، فالعمود الخشبي كان من أجلي، والحبل والعصا كانا ليدي وظهري، وبدأت عملية العقاب.

ربطني أبي على العمود وأحكم رباطي، وبدأت الخيزرانة تلعب في ظهري، وتلعلع في يدي وفي كتفي.

حاولت أمي حمايتي، لكنها لم تتمكن؛ فحين يغضب أبي يتحول إلى وحش ضارٍ كاسر، من الصعب الاقتراب منه أو ردعه.. حاولت أن تمنعه، لكن لا جدوى فقد وقعت العصا عليها وهي تحاول حمايتي.

فذهبت تركض إلى بيت جيراننا تطلب النجدة لإنقاذي من براثن أبي وأسنانه وحبله وعصاه.

فجاء بعض الرجال ليوقفوا أبي عن ضربي ويحجزوه عن قتلي، لكنهم لم يتمكنوا من إيقافه، كان من الصعب السيطرة على أبي لحظة هيجان وغضب.

فتوقف بنفسه حين تعبت يده، وشبعت العصا من كتفي وظهري، واكتفت الخيزرانة من جلدي ولحمي، حتى انتزع مني اعترافاً بما حدث، وذكرت له اسم السارق ومكان المسروق.

لم يفك أبي قيدي إلا بعد ثلاثة أيام كاملة، كانت أمي تطعمني وتسقيني، وتُراقبني وتؤنسني.

كنت أتبول في مكاني، وأنام واقفاً في عمودي مقيدًا بحبلي..

كانت أمي وبعد أن يغط أبي في نومه، تسحب فراشها إلى خارج غرفتها، لتنام تحت قدمي، فتواسيني وتحميني..

ياالله .. ما أعظم الأم .. إنِّها أعظم مخلوق في هذا الكون.

كانت تجربة لا أنساها أبدًا، تجربة سلوكية تأديبية لم ولن أنساها ما حييت. ما زلت حتى اللحظة أعشق أبي عشقاً عظيماً، حين أتذكر قسوته وغيرته وغضبه، حين أتذكر عنفه وضربات عصاه، أدرك مدى حبه لي، وأتيقن من حرصه وخوفه عليَّ، فأذرف دمعات شوق وأصدح بشهقات وحب عرفانا لأجله.

إنِّه أبي الذي أدبني فأحسن تأديبي.

"وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".. صدق الله العظيم.