الغيم.. وألوان السنابل!

 

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إنْ كان التاريخ صادقاً، فيمكن أن يكون كاذباً ومضللاً بالقدر ذاته" - هاني نقشبندي

*****

ذات يوم.. كنت وأحد الأصدقاء نتحدَّث ونحاول تحليل وتفكيك معنى إحدى الجُمل الشعرية في إحدى قصائد الشاعر بدر بن عبدالمحسن (1)، والجملة الشعرية مثار الجدل هي: "سألت الغيم.. عن لون السنابل"!

الحوار والجدل ليس عن علاقة الغيم بالسنابل؛ فهذه لا تحتاج نقاشا؛ فالغيم سقاء للسنابل، وبأمر الله يمدها بالماء الذي أصبحت به سنابل، إنما الجدل كان حول سؤال: هل لمن يسقي السنابل علاقة بلونها، أو له رأي بلونها؟ وهل يستطع فرض لون معين للسنابل، وهل السنابل أساسا طيعة للغيم وهي التي تسقى بمائه؟

إذن.. لم نترك كل المسؤولين المفترضين ونسأل فقط الغيم عن لون السنابل! هل هو من يعطي له الحق في تحديد لون المعطى إليه؟

تذكَّرت هذا الحوار وذكرت الغيم، وألوان السنابل، وبدر عبدالمحسن، وتذكرت صديقي الذي تاه في أتون القارة العجوز، وتمكنت منه ظروف الزمان المستبدة!

لحظات العمر تمضي بسرعة، والأنفاس تتناول نباهة الإصغاء للأحلام التي إن تحدثت بهمس مع الحالم سيكون همسُها صاخبا مزعجا للضمير، ولافتاً لتوابع الطموح، حائرا بين متاهات الشك ورسوخ اليقين، متحاملا مرة، وراحلا نحو الشك والغموض مرات!

للذكرى مقابر واصطفافات، في هذه الحياه الدنيا أعلم أن أهم الاشياء التي تؤثر على مشاعر الإنسان هي تذكر ذكرى ماضية.. لا شك أنَّ لكل إنسان أمورا وذكريات وأحداثا وآلاما وأحزانا، كتلة مشاعر متعددة.

تذكرت ما سبق عندما تواصلت مع أحد الأصدقاء ممن جرفتهم الأيام للإقامة في برلين بألمانيا، لم يكن يتصور هذا الشاب أن تأتي به الرياح إلى عاصمة الجرمان، ولم يكن يتوقع أن يعيش يوما في بلد أوروبي، لا شك الظروف تحكم والحياه لكل يوم فيها أحداث وفي كل يوم عبر.. ودروس!

سألتُه متى جاء إلى العاصمة الألمانية، فقال إنه وصل إليها عبر أكثر من وسيلة ابتداء من مدينة سالزبورج النمساوية الجميلة، التي لم تلائمه ظروف الإقامة بها؛ نظرا لبعض قوانين الإقامة التي لم يجد ضالته بها.

سمع من عدد من رفقائه من اللاجئين أنَّ ألمانيا بلد مثالي للإقامة والعيش فيها حاليا، خاصة برلين التي سمع عنها كثيرا؛ لأنَّ الوضع أخف من النمسا وبقية دول القارة العجوز؛ لذلك فقد أصبحت برلين هي الحلم الذي لم يغادر مخيلته!

وصل برلين وكان قد تواصل مع أحدهم ممن يقطنون هناك قبل مجيئة للعاصمة الجميلة، حيث أشار إليه صديق مشترك بالتواصل معه، وبالفعل استضافه وقام بمساعدته بعدد من الاستشارات بناء على تجارب سابقة ونصائح من الأصدقاء، وبالفعل تمَّ عمل إجراءات الإقامة، ولاحظ أنها أسهل من البلد الذي قدم منه.

صديقي يحمل مُؤهلا أكاديميًّا عاليًا في العلوم الإنسانية، وطموحه كان الالتحاق بإحدى المؤسسات الأكاديمية، لكن أنت تريد وأنا أريد والله يُقسِّم ما يُريد؛ فقد تحول الطموح إلى البحث عن أدنى ما يُمكن ليتمكن من الحصول على عمل ولقمة عيش، تحديات الحياة وتقلباتها لا تعترف إلا بالواقع، كانت مشكلته عدم التحدث بالألمانية، وهذه لعمري أم المشاكل في تلك البلاد، وجد عملا بعيدا عن مؤهله العلمي لكنه قَبِل على مضض، وبحماس على طريقة: إن ما طاعك الزمان!

كانت حياته مختلفة بكل المقاييس عمَّا كان يحلم ويخطط، توارى كل حلم، لم يعد له هاجس سوى الأمان والعمل ولقمة تسد الجوع، أصبح همُّه في هذا اليوم وهمومه، تاركا الغد لمتاهة الغد ومداراتها، بنفس الوقت عَثَر على طريقة معقولة لتعلم اللغة الألمانية بشكل لا يُحمِّله عبئا ماليا، ثمَّة كم شهر وسأتحدث الألمانية - هكذا قال لي. وبسبب أمور خارجة عن الإرادة انقطع التواصل معه منذ عدة أشهر، ولا أعلم ما هي التغيرات (إن حدثت فعلا) وأثرها عليه؟ هل تعلم اللغة؟ هل حصل شيء ملموس في حياته؟ هل لا يزال يتذكر الغيم، وألوان السنابل؟

---------------------

(1) المقصود: قصيدة نثر للأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، بعنوان "إلى من يهمها أمري".