صَلاة أمِّي

عبدالله الفارسي

 

لا أدري حين أتذكر طفولتي أُصَاب بنوبة ضحك.. كُنت طفلًا غريبًا فعلًا، كُنت أسأل أمي حين تُصلِّي ماذا تفعلين؟ فتقول: أصلي، فأقول لها بكل براءة: ولماذا تُصلِّين؟! فتجيبني بعفويتها المطلقة: "أصلي لربي الذي خلقني".

كانتْ تُصلي بطريقة هادئة خاشعة، ساكنة، وتهمس بصوت خافت.. كانت صلاتُها تختلف كثيرا عن صلاة أبي السريعة المهلهلة. أبي كان سريعا في كل شيء خاصة الصلاة، أما أمي فكانت هادئة في كل شيء خاصة في الصلاة.

كانتْ أمِّي في نهاية صلاتها ترفع يديها، وتظل مرفوعة فترة طويلة، ثم تمسح وجهها ويديها وكل جسدها بطريقة ساكنة هادئة، وتظل بعد الصلاة عدة دقائق، وكأنها تهذي أو تُحَادث شخصا ما.

كُنت أُراقبها وأنا مُكتنز بالعجب، وأحيانا أجلس بجانبها، وأحاول النظر إلى السقف لعلِّي أرى من هذا الذي تحادثه أمي، دون أنْ أعي ماذا تفعل أمي وماذا أصابها.

كبرت هذه التساؤلات معي، فأصبحت مزعجة جدا.. تعلمت الصلاة، ولكنني لم أتقن "صلاة أمي".

كُنت أصلِّي كما يُصلِّي الناس، ولكني لم أشعُر بتلك الأحاسيس اللذيذة التي يتحدَّث عنها المؤمنون الصادقون.

ظلَّت قضية الصلاة تشغلني فترة طويلة، وكلما تعمقت في القضية اكتشفت أن الصلاة من أهم القضايا الدقيقة والمهمة في الإسلام.

حافظتُ على الصلاة، ليس لأنها فريضة وإنما كنت أواظب عليها بحثًا عن تلك النشوة التي تسمى "الاطمئنان". كُنت أبحث عن تلك النقطة البعيدة التي تصل إليها "أمي" في ختام صلواتها، كنت أبحث عن ذاك الهذيان الذي يصيب "أمي" فور نهاية كل الصلاة، كنت أجتهد فيها أيما اجتهاد بحثا عن "الاطمئنان"، ولكن لا أتذكر أنني حصلت عليه أو أدركته في أي صلاة من صلواتي الكثيرات.

ظللتُ مُحَافِظا عليها حتى دخولي الجامعة، وفي الجامعة حصلت لي انتكاسة كبيرة جدا؛ لسببين: دراستي للفلسفة ووجود أستاذ للفلسفة كان مُلحِدا إلى حدٍّ ما، استطاع أن يُحوِّلني بسهولة إلى ملحد صغير، كان الأستاذ يحاضر لنا مادة بعنوان "فلسفة العصور الوسطى"، المادة كانتْ طبيعية وشيقة، لكنه كان يوظف موهبته الكبيرة في تحليل الفكر الفلسفي بطريقة عجيبة جدا ومؤثرة جدا.

طبعًا هنا يأتي دور المتلقِّي والمستمع؛ فليس كل مستمع يدرك أهمية الكلمة المسموعة وصخبها ومعدل تأثيرها؛ فليست كل العقول على نفس المقدار من الوعي والإدراك. كان مسلما، لكنه لم يكن مُلتزما بضوابط الإسلام ولا فرائضه، وحين دخلت معه في نقاشات عميقة عن الإسلام، استطاع أن يتمكَّن مني ويُقنعني بأن الدين مجرد إحساس نفسي وشعور داخلي فقط.

استطاع أن يُقنعني بأنَّ الدين لا يحتاج لكل هذه الفرائض والكتب والمناهج والشروط والقواعد، فتركتُ الصلاة فترة قصيرة، ثم عُدت إليها، ثم تركتها فترة أطول ثم عُدت إليها.. فظلت علاقتي مع الصلاة متوترة جدا، وعشت شهورا في صراع مرير مع النفس والشيطان والهوى، فأخذت اقرأ قِصَص الملحدين وتاريخ الزنادقة عير التاريخ، فامتلات غُرفتي بكتب ومجلات تحمل عنوانين فقط الإلحاد والزندقة.

وفي إحدى الأمسيات، دخل بيتي صديق عزيز، فتفاجأ بتلك الكتب، وذُهِل، فقال ما هذا؟ يبدو أن لديك مشروعا إلحاديا عظيما!! فقلت له: لا أبدا، وإنما هو بحث عن إجابة على تساؤل وحيد: هل الدين هو طريقنا الوحيد إلى الله؟ عشتُ سنوات بعد تخرُّجي وأنا في حالة مضطربة من التفكير.

كُنت أصلِّي، ولكني لم أشعُر يومًا أنَّ الصلاة تحقِنُني بما أريده وأشتهيه، لم تُعطِني الصلاة تلك الدفقة الشعورية التي أنشدها، لم تحقنِّي بتلك النشوة التي يتحدث عنها الفقهاء والصالحون.

لكنَّني كُنت مدركًا لأهمية الصلاة وخطورتها، وأن قطعها هو قطع الحبل بيني وبين الله. ظل الحبل موصولا لم ينقطع، لكن لم تكن هناك تلك الإمدادات القوية الثرية بالإيمان.

ظلت تساؤلاتي تكبر وتعصف بالروح، والغريب أنه كلما بحثت وقرأت وتعمقت، ابتعد القلب عن مركز الإيمان وانحرف بعيدا.

أصبحتْ النظريَّة معي تسير بالعكس المفترض، كلما درستُ وتعلمت وارتفع معدل المعرفة لديَّ، اقتربت أكثر من جوهر الإيمان وحقيقة الدين.

بعثتُ رسالة لأستاذ كبير في الفلسفة يعيش في فرنسا فرد علي: "لا تعتقد أنك ستصل إلى الحقيقة من خلال الفلسفة أو العلم، ابحث عن حقيقة الإيمان في الأشياء البسيطة التي حولك.. عِش مع البسطاء، عِش مع الفقراء، التَصِق بالطبيعة وستصل إلى حقيقة الإيمان، وسيهدأ قلبك المضطرب".

وهنا.. تذكرتُ المقولة الشهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين كان يردد دائما هذا الدعاء الجميل: "اللهم إني أسألك إيمانا كإيمان العجائز"، الطريق إلى الإيمان هو في بساطة الفكر، الطريق إلى النور في بساطة الحياة.

لن تَرَى نور الله واضحًا في السيارات والطائرات والتكنولوجيا، كما أنك حتما لن تراه في الهواتف النقالة وفي مصابيح الشوارع وفي خلايا الطاقة الشمسية وفي الازدحامات، بل ستراه بوضوح في الصحراء، في الخيمة، في الرمال، في حنين الناقة، في ثغاء الماعز، في هفهفة النسيم، في زقزقة العصفور، في هديل الحمام وفي صفير الريح.

آخر جملة قالها لي: "ضوء الإيمان كضوء القمر لن ترى ضياءه وجماله في مدينة مليئة بالمصابيح والسيارات، بل ستراه ساطعا باسقا في الصحراء في السهول والبراري وفي السفوح والوهاد".

منذ تلك اللحظة، وأنا أعشق الطبيعة، أحب الفقراء البسطاء، أحب البداوة وأكره المدن المزدحمة، وما زلت محافظا على صلواتي، ما زلت أصلي وأصلي رغم التساؤلات الكثيرة المزعجة، ولكن أيضا ما زلت حتى اللحظة لم أتقن تلك الصلاة العجيبة التي كانت تمارسها وتتقنها "أمي"!