الثَّابت والمُتغير في السياسة العُمانية

حاتم الطائي

السياسة العُمانية لم تتخل يوماً عن ثوابتها الوطنية ولم تقفز على مبادئها

تعزيز صلاحيات المُحافظين مُتغير تنموي يدعم مسارات المُستقبل

عُمان تملك سياسة خارجية مُستقلة تدعمها رؤية واضحة للمُتغيرات

على مدى 50 عاماً من نَّهضة عُمان الحديثة شهدت بلادنا العديد من المُتغيرات والتَّحديات التي أثرت على السياسات، سواء كانت داخلية تستهدف الشأن الوطني المحلي، أم خارجية تتعلق بدبلوماسية السلطنة في تعاملها مع مُختلف القضايا، لكنَّ المُؤكد الذي لا يقبل الشك ونراه جلياً جلاء الشمس، أن سياستنا لم تتخل يوماً عن ثوابتها الوطنية، ولم تقفز ذات لحظة على مبادئها، كما لم يحدث أن فقدت بوصلتها أو غيَّرت اتجاهها لوجهات تتنافى مع قيمنا أو عاداتنا المُتأصلة والمُتجذرة في وجدان كل مُواطن ومُواطنة.

وفي العام 2020، عام التجديد كما ذكرنا من قبل، تشهد عُمان تجديداً غير مسبوق من حيث وتيرة الأداء أو النتائج المُتحققة، وتكللت جهود التجديد والتطوير بالمراسيم السُّلطانية الأخيرة التي غيَّرت من هيكل مُؤسسات الدولةِ، وفتحت الآفاق واسعةً أمام نهضةٍ مُتجددةٍ، بقيادة حكيمة ودعم وتأييد أبناء الوطن المُخلصين. وفي خضم هذا كله يتولد دائماً السؤال عن الثابت والمُتغير في السياسة العُمانية؟ وهل تعني هذه الثوابت جموداً وتخندقاً أم انفتاحاً مُمنهجاً ومتدرجاً؟ وهل المُتغيرات من شأنها أن تُلقي بظلالها على الثوابت؟ أم أنَّها تُعزز من قوتها وتعضدها؟

اجتماع مجلس الوزراء يوم الأربعاء الماضي برئاسة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- أجاب عن كل هذه التساؤلات والاستفسارات التي ربما تطرق إليها المُحللون والمُراقبون في الخارج قبل الداخل. فالدلالات التي خرجت عن هذا الاجتماع وما تلاه من بيان وتصريحات على لسان جلالة السُّلطان المُعظَّم، كلها تبرهن نتيجة واحدة عنوانها "التطوير المُمنهج.. والسياسة الخارجية الثابتة".

فهذا الاجتماع تاريخي بامتياز؛ إذ إنِّه أوَّل اجتماع لمجلس الوزراء بتشكيلته الجديدة، وهو أيضاً أول مجلس وزراء مُعين من قبل جلالة السُّلطان المُعظَّم منذ توليه مقاليد الحكم في البلاد في يناير الماضي، فضلاً عن أنَّ هذا المجلس هو أيضاً أول مجلس وزراء بعد ثورة التصحيح الإداري التي نفَّذها بحكمة واقتدار جلالة السُّلطان، وهو أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد إعادة فتح جميع الأنشطة الاقتصادية تقريباً. إذن نحن أمام اجتماع فريد من نوعه، من حيث الظرفية الزمينة، والظرفية الداخلية، وكذلك الظرفية الخارجية، وهذه سنتطرق إليها في قسم آخر من المقال.

وعندما نقف على الظرفية الزمنية نجد أنَّ أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد إعادة هيكلة مُؤسسات الدولة، وضع 3 مُحددات رئيسية؛ الأول: التعامل المُمنهج مع الأوضاع المالية والاقتصادية، وهذا المُحدد ترجمته القرارات الاستباقية والمُبكرة والحكيمة بترشيد الإنفاق وتأجيل المشروعات غير الضرورية، وما تلا ذلك من توجيهات بإحالة قدامى المُوظفين إلى التَّقاعد، والذين خدموا الوطن في مواقع عدة وأنجزوا خلالها الكثير، ثمَّ إعادة هيكلة الشركات الحكومية ووضعها تحت مظلة جهاز الاستثمار العُماني. وهذه القرارات والتوجيهات ركزت بصورة أعمق على مُعالجة الاختلالات المالية والتحديات الاقتصادية، ما أسفر عن تسجيل تراجع كبير في العجز المالي بميزانية الدولة، وأيضًا تقليل الضغوط الناجمة عن التحديات الاقتصادية.

ورغم جائحة فيروس كورونا والتي أضرت بأكبر الاقتصادات في العالم، إلا أن السلطنة استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة بأقل الخسائر المُمكنة، بفضل الإدارة الحكيمة للأزمة من لدن جلالة السُّلطان واللجنة العليا المُكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار الفيروس، وسعت حكومة جلالة السُّلطان إلى اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتحفيز الاقتصاد ودعم المُتضررين، وما الحزمة المالية التي أطلقها البنك المركزي في بدايات الأزمة لضخ ما يزيد عن 8 مليارات ريال سيولة في الأسواق، فضلاً عن قرارات تأجيل الأقساط البنكية، وإنشاء الصندوق الوقفي لدعم الخدمات الصحية، وصندوق الأمان الوظيفي، وتبرع جلالته للصندوقين بعشرين مليون ريال، بواقع 10 ملايين ريال لكل صندوق. وكل هذه الإجراءات تُؤكد المنهجية المدروسة في التعامل مع الأوضاع المالية والاقتصادية.

أما المُحدد الثاني فتمثل في تحقيق التطوير المُؤسسي لأداء الجهاز الإداري لمُواكبة النمو الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وهنا نجد ربطاً وثيق الصلة بين المُحددين الأول والثاني، فتطوير الأداء المؤسسي يستهدف تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، فالعائدات المُتحققة من إعادة الهيكلة لن تعود على الوزارات أو الشركات الحكومية، بل إنَّ نتائجها أعم وأشمل على المُجتمع بأسره، فتخفيف الأعباء المالية وترشيد النفقات وتسهيل المُعاملات وخلق فرص عمل جديدة، كلها ثمار يانعة مُرتقبة بعد إتمام إعادة الهيكلة.

ويمكن أن نتلمس المُحدد الثالث في جهود تنسيق الجهود الحكومية في كافة المجالات، وهو ما أكد عليه اجتماع مجلس الوزراء، وهذا أمر طبيعي في ظل حكومة رشيقة ومُتناغمة الأداء، تضع نُصب أعينها أهدافاً واضحة ترتكز على غايات الرُّؤية المُستقبلية "عُمان 2040"، والتي بدورها ستنعكس على حياة المُواطن من حيث الحصول على خدمات مُتطورة، وبناء مُستقبل أكثر ازدهارا.

وما سبق من مُحددات هي ثوابت سارت عليها الحكومة الرشيدة عاماً تلو الآخر خلال مسيرة النَّهضة، وأكد عليها عهد النهضة المُتجددة، فتماهت تلك السياسات الداخلية الثابتة، القائمة على مبدأ توفير العيش الكريم للمُواطن، مع التطوير المُمنهج المرتكز على الرؤية المُتجددة التي تصل بنا إلى تحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040".

لكن ثمَّة مُتغير نستطيع أن نُلقي عليه الأضواء الكاشفة، وهو السَّعي نحو تعزيز اللامركزية فيما يتعلَّق بشؤون المُحافظات، من أجل الدفع قدماً بوتيرة أسرع في مسيرة التنمية المحلية، وخاصة تنمية الولايات والنيابات والقرى، من خلال تأكيد جلالة السُّلطان المُعظَّم على "منح المُحافظين الصلاحيات اللازمة لتمكينهم من الاضطلاع بمسؤولية تنشيط الاقتصاد والاستثمار والتجارة وغيرها من المسارات بعيدًا عن المركزية". نحن هنا أمام طفرة نوعية في العمل البلدي والإداري بالسلطنة، فلم يعُد بذلك المحافظ منصباً شرفياً أو صاحب عمل روتيني، بل بات عنصراً فاعلاً في مسيرة التطوير، وذا مسؤولية واضحة المعالم ليس فقط لإدارة الشؤون المحلية الاعتيادية في المُحافظة، بل للقيام بمهام كبرى، عنوانها التنمية الاقتصادية والاستثمارية.

آخر الثوابت الوطنية في الشأن الداخلي، يتمثل في تأكيد المقام السامي على أهمية قضية التعليم باعتبارها أولوية وطنية، وهذا نهج مُتأصِّل في مسيرة النَّهضة العُمانية المُعاصرة، فجلالة السُّلطان المُؤسس قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وضع التعليم نصب أعينه وأولاه جل اهتمامه، فتحققت نهضة تعليمية غير مسبوقة. وفي العهد الجديد الذي نحيا تحت ظلاله الوارفة اليوم، يُؤكد جلالة السُّلطان- أيَّده الله- أنَّ التعليم أولوية وطنية، وهذا يتماشى مع تأكيدات جلالته منذ توليه مقاليد الحكم على أهمية الابتكار والذكاء الاصطناعي وكل ما يرتبط بمجال التعليم، ويُساعد على الارتقاء بالعملية التعليمية وتخريج أفواج من الطلاب المُمكنين في العديد من المجالات المُتقدمة.

أما الجانب الآخر من السياسات؛ فهي السياسات الخارجية الثابتة، والتي تستند بثقلها الهائل على مبادئ رئيسية لا حِيدَة عنها: حُسن الجوار، والحفاظ على الثوابت العربية، والصداقة مع الجميع، وعدم التدخل في شؤون الغير؛ فعُمان تنتهج سياسة خارجية ثابتة تُؤمن بإقامة علاقات مُتوازنة مع الجميع، ديدنها التعاون والمصالح المشتركة، وجوهرها التمسك بالقيم والمبادئ العُمانية الراسخة، فنحن لم نغرد يوماً خارج السرب، لكننا احتفظنا لأنفسنا بحُرية القرار السياسي واستقلاله، ولم نتوقف عن مد يد العون لكل من يحتاجها، وشواهد التاريخ البعيد والقريب تُبرهن صدق ذلك.

وختامًا.. إنَّ الثابت والمُتغير في السياسات العُمانية يُؤكد أنَّ لهذه الدولة العريقة رؤية واضحة المعالم، راسخة الأركان، مُتكاملة البُنيان، عهدها وفاء وأمانة، ومسارها استقامة وعدل، وغايتها تنمية ورخاء، ولذلك نقول للجميع في الداخل والخارج، إنَّ عُمان لن تتغير، ولن تتبدل، ولن تتزحزح يوماً عن نهجها القويم لالتزامها بثوابت كبرى.

الأكثر قراءة