لماذا مطلب الإصلاح ضرورة وطنية؟

 

عبد الله العليان

منذ عدة سنوات أجاب أحد السياسيين العرب، في أحد اللقاءات الصحفية، على أحد الأسئلة، عن أهمية الحاجة إلى الإصلاح، فاعترض هذا المسؤول السياسي على كلمة "الإصلاح"، معتبراً أنَّ كلمة الإصلاح، تعني اعترافاً بالفساد!!

والحقيقة أنَّ مفهوم الإصلاح لا يقترن دائماً بمسألة الفساد دون غيره من المسائل التي تحتاج إلى إصلاح وهي كثيرة، وإن كانت بعض المعاجم القديمة نسبياً، ربطت بين الإصلاح والإفساد، لكن المُتغيرات في الحياة الإدارية والفكرية والسياسية، جعلت قضية الإصلاح حاجة مُلحة في العصور الحديثة، وأن الحاجة للإصلاح لا تنحصر في الفساد لوحده، فهو أعم وأشمل في قضايا ومسائل عديدة بعد التطورات والمستجدات التي طرأت، فإصلاح الشيء يعني تقويمه من الانحراف أو الإعوجاج، أو السير في الطريق السليم والصحيح الذي تتوخاها مسيرة الوطن وفاعليته للنهوض والتقدم. إلى جانب تقويم وإصلاح الهياكل والمنظومات المترهلة القائمة، بما يُؤسس للنهوض الفكري والسياسي واقتصادي.

والفساد بلا شك إحدى هذه الإشكالات التي تحتاج إلى إصلاحات جذرية، وتتعدى حتى الإصلاح التغييري، إلى البتر والاستئصال، وتصل إلى الأحكام القانونية للفصل فيمن انحرف إلى طريق الفساد والإفساد.

فمفهوم الإصلاح إذن لا يتعلق بالإفساد دون غيره- كما أشرنا آنفاً- بل يُعد شاملاً لكل المنطلقات الفكرية والسياسية والاقتصادية، وعندما تبرز الحاجة لهذا الإصلاح، مع تراجع البناء المُؤسسي عن مسيرته السابقة، وتعرضه للتراجع والانكسار والخفوت، تكون أولى الخطوات إصلاح هذا البناء المُترهل سواء في السياسات أو الهياكل المؤسسية أو غيرها. فهذه المنطلقات التي اتسمت بالانحراف، أو أبعدت عن الطريق القويم، ينبغي أن يكون الإصلاح والتغيير السبيل الأمثل لإعادة الأمور إلى نصابها. فالبعض قد لا يُرحب بالإصلاح والتغيير، ربما لعقلية سكونية جامدة، أو ربما لأهداف مصلحية ترى عكس هذه التوجه الإصلاحي، والبعض الآخر- لقلة الفهم والوعي- لا يدرك أهمية الإصلاح والتغيير وإيجابياته ومتطلباته العمومية. ولذلك البعض لا يرى فائدة في الإصلاح والتغيير، ولا يُريد تبديلاً أو تعديلاً لذلك في رأيه، لأنها في فهمه تربك المُستقرات، وهي نظرة آنية ضيقة ومحدودة، عن البعد الأعم لحاجة إصلاح الواقع، وهذه بلا شك تُخالف سنن الحياة ومُتغيراتها التي يعد الإصلاح والتغيير أمور تحتاجها مجالات الحياة، لتحريك السكون، وانتشال الجمود الذي هو ضد الحركة والانطلاق، وهو المحور الأهم في قضية الإصلاح والتغيير.

من هنا فالإصلاح يُسعى إليه بجدية، عندما تتطلب الضرورة والحاجة ذلك، وعندما تكون الأوضاع على غير ما يُرام من الاستكانة، ومن التكاليف الباهظة دون الحاجة لذلك، ومن تراكم المُشكلات وتفاقمها من خلال خطط وبرامج لا تُعطي نتائج إيجابية، هنا يبدأ الشعور بمطلب الإصلاح، وهذا يحتاج إلى إرادة ورؤية لإيجاد المسلك الايجابي لإصلاح هذا الواقع.

وعندما طرح بعض الرواد من رجال الإصلاح والتجديد في القرن التاسع عشر من المغرب، من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، وغيرهما من دعاة الإصلاح، أو ما عُرف بـ"صدمة الغرب"، بعد الاطلاع على نهضته وتقدمه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حاول هؤلاء، أن يُحركوا الجمود والسكون في الواقع العربي، وإصلاح المؤسسات الفكرية والاجتماعية والدينية، والدعوة إلى اليقظة والوعي الثاقب من سبات الأمة، لكن الاستعمار حال دون تحقيق هذا التوجه، بل تحرك لإيقاف ذلك؛ إذ أنّ الإصلاح والتغيير، يناقضان توجهاته السياسية والفكرية والاقتصادية، لكن الفكرة الصائبة لا تموت. ومن هنا بقيت دعوات هؤلاء المصلحين الرواد قائمة، وأثرهم محل تقدير واهتمام، بغض النظر عن  النجاح أو الفشل فيما قاموا به، لكن دعوة الإصلاح والتغيير، من المطالب المُهمة، لكل أمة من الأمم، عندما تكون الحاجة إليها ضرورية وحتمية.

ثم إنَّ الإصلاح مبدأ قرآني، أشارت إلى آيات عديدة، ومنها قوله تعالى في سورة هود على لسان نبي الله شعيب: "يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، كما جاء في قوله تعالى بسورة الأعراف: "ولَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ".

فمطلب الإصلاح سنة إلهية لا محيد عنها، فهي بمثابة من يزيل الأشواك من الطريق، بهدف أن يكون المسار مُمهداً من الإعاقات والعراقيل.

فقضية الإصلاح ومتطلباته، قضية شاملة ودائمةـ إن أريد لها أن تحقق الأهداف المرجوةـ ولذلك لابد أن يستمر الإصلاح والتغيير، سواء في مؤسسات الفكر، أو الاقتصاد، أو الثقافة، أو في غيرها من المؤسسات الحاضنة لحركة النشاط والتدبير في كل المناحي والركائز الأساسية القائمة، فمن خلال هذا الجهد الإصلاحي المُتحرك والمتطور بأسسه وأساليبه، في مُتابعة الحراك العام وعلى كل المستويات، تتحقق معه الكثير من الإيجابيات والأهداف، وهذه بلا شك تجعل حركة البناء المُؤسسي القائم أكثر تفاعلاً مع المستجدات والتحولات والتغيرات الجديدة.