د. عبدالله باحجاج
يُعدُّ إحياء وزارة الاقتصاد -بعد إلغائها- من بين كبرى الإيجابيات في إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، ونُراهن عليها كثيرا في الاعتداد بالأبعاد الاجتماعية المفقودة، وهي أبعاد ستكون في صلب اختصاصاتها، وهذا الحدث الأبرز الذي يتطلع إليه كل المواطنين من إعادة إحياء هذه الوزارة مع أول حكومة للعهد الجديد.. ويعزِّز هذه التطلعات اختيار الدكتور سعيد بن محمد الصقري وزيرا لها.
لكن: لماذا الصقري؟ الإجابة تتضح من خلال عدة عوامل؛ أبرزها: أنه قدم أفكاره قبل استوزاره بمفاهيم شعبوية وبرؤى معاصرة، وهي في حقيقة الأمر تحمل الصفات الوطنية لعهد متطوِّر ومتجدد في مفاهيمه ومضامينه، وحتى وسائل تحدياته، لا يقرها ويسلم ببلورتها إلا من أعمل فكره، وقارن بين واقع الدولة العُمانية في عصر السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وبين عهد متجدد للنهضة العمانية يقوده جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- والفارق الجوهري بين العهدين.
لكن يظل التساؤل قائما الآن: هل سيدافع الصقري عن أفكاره من أجل تطبيقها وهو الآن في موقع صناعة القرار؟ بل إنَّ التساؤل الذي يُطرح الآن وبقوة يدور حول الآتي: هل من بين معايير اختيار الحكومة الجديدة طبيعة أفكار فاعليها ومؤهلاتهم؟ وهل أفكارهم ومواقفهم قبل الاستوزار تلزمهم سياسيا بعد الاستوزار؟ نحن هنا نتجاوز الإلزام الأخلاقي رغم أنه الأهم والأقوى، لكننا سنتناول المنظور السياسي لهواجس مرحلتنا الوطنية التي تؤسس لنهضة متجددة.
وقد تمَّ الانفتاح على نُخب وزارية من مصنع صناديق الانتخابات "بن مسن والعمري نموذجا"، ومن مصنع صناعة الأفكار وتشكيل الرأي العام "الصقري نموذجا"، وهذا الانفتاح ليس بالمطلق، ولا بالنسبة التي تجعلنا نطلق على الحكومة الجديدة أنها تكنوقراطية، وإنما هو انفتاح في ضوء استمرارية إنتاج نُخب وزارية من مصانع تقليدية، سيكون لها قوة التأثير على غيرها.
ومن هنا، يُمكن القول إنَّ أول حكومة للعهد الجديد تجمع بين شخصيات تكنوقراطية، لها مواقف شعبوية لا يمكن التنصل منها، وإلا واجهت مواقفها السابقة على الاستوزار تضربها وهى في موقع السلطة، وشخصيات أخرى اقتصادية وتجارية لها مصالح متنامية ومتعاظمة، ووريثة تاريخ سلطوي مُمتد في الاستوزار وعميق في النفعية الاقتصادية؛ مما يطرح مجموعة تساؤلات موضوعية تتعلق بالتجرد من المصالح الخاصة، فهل ستنجح؟ وكذلك المساحة المتاحة للتكنوقراط إذا تعارضت البراجماتية مع النفعية؛ فكيف ستحسم سياسيًّا؟ سنتناول هذا الموضوع في مقال لاحق.
وهنا.. تأتي الإجابة عن التساؤل الذي أوردناه في المقدمة، وهو لماذا الصقري؟ لأنَّه يُمثل تطلعات المجتمع العماني في مرحلة التحولات التي تطرأ على الدولة العمانية، وما يتقاطع معها من أزمات مالية واقتصادية، بعد أن كشف عن الكثير من أفكاره عندما كان كاتبا صحفيًّا، أي قبل الاستوزار، وكلنا تابعنا حالة التجاذب مع أحمد الهدابي بشأن مُطالبته تخفيض رواتب أعضاء مجلس الدولة والوزراء وتوظيفها لحل قضية الباحثين عن عمل، عِوَضا عن تحميل موازنة الدولة.
وإذا ما انتقلنا من هذا الميل الجائح للشعبوية إلى مَرئياته في تجديد بناءات الدولة، فإنَّنا سنقف هنا عند الحقوق والواجبات على الحكومة والمواطن في وقت الانكماش الاقتصادي في مقال له منشور العام 2017، يبحث فيه عن العلاقة السياسية بين الحكومة والمجتمع في إطار دول الخليج، وطبعا السلطنة مُستهدفة من هذا الطرح، وإذا ما حاولنا تطبيقه على بلادنا من منظور الصقري؛ فهو يرى عدم الصلاحية الزمنية للعقد الاجتماعي الاقتصادي الذي تأسَّس منذ العام 1970 إبان نهضة المُؤسِّس؛ لأنَّه كان قائما على الدولة الريعية التي ولى عهدُها، وهذا العقد القديم -والرأي للصقري- كان يتم عن طريق قيام الدولة بتوفير الأمن وتوزيع الريع النفطي وعدم فرض الضرائب، مُقابل غياب المجتمع عن المشاركة الفعلية في السياسة وفي اتخاذ القرار.
لكن: مَاذا الآن بعد أن انتهى عصر الدولة الريعية؟! هل ستظل العلاقة السياسية بين السلطة السياسية والمجتمع قائمة على مبدأ المنح والعطاء، مقابل التنازل عن الحقوق السياسية؟
من الناحية الواقعية، هذا لن يكون؛ فالدولة غير قادرة على الاستمرار على النهج نفسه؛ بسبب أزمة النفط وتكرار أزماته المتتالية، وتفجُّر أزمات أخرى بين كل فترة زمنية تُرهق موازنة الدولة، فلجأت مضطرة إلى خيار فرض ضرائب ورفع الدعم وفرض رسوم على الخدمات التي كانت مجانية، وهى تمسُّ جوهر المعيشة الاجتماعية، وهذا يعني المساس بالعقد الاجتماعي القديم، وبالتالي انتهاؤه.
من هُنا.. يضعنا الصقري في جُزئه الأول من مَقاله سالف الذكر في مُعادلة ثنائية واقعية؛ مُفادها: "أنه إذا كان من حق الحكومة ترشيد الإنفاق العام، ورفع رسوم خدماتها، ورفع نسبة الضرائب واستحداث ضرائب أخرى لمواجهة العجز، أصبح من حق المجتمع المشاركة في كيفية القيام بذلك، قبل أن يكون واجبا على المجتمع السمع والطاعة". ويستطرد قائلا: "وإذا كان من حق المجتمع المشاركة في اتخاذ القرار، وكان مشاركا حقيقيا في رسم السياسات المالية، أصبح عليه واجب السمع والطاعة".
تنظير دقيق، ويقره الخبراء والمنظرون السياسيون، ويتبناه وزير الاقتصاد العماني قبل أن يصبح وزيرا، يحدد لنا الملامح الفكرية لهذا المسؤول الذي أنيطت به أهم وزارة في البلاد، وهو بذلك يحدد مفهوما جديدا للسمع والطاعة من المنظور السياسي، وليس الشرعي، وبالتالي، فإن المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار تمثل أساس العقد الاجتماعي الجديد، ودونه يُصبح أي قرارات انفرادية غير شرعية؛ لأنها خارج سياقات المفهوم الجديد للسمع والطاعة، ومن ثمَّ فإنَّ السمع والطاعة تُبنى الآن وفق التشاركية الفعلية والحقيقية بين الحكومة وممثلي المجتمع الانتخابي عبر صناديق الانتخابات الحرة.
وهذا يجعلُ الخيار الديمقراطي نهجًا ثابتًا في النهضة العُمانية المتجددة، ويفتح ملف تطوير صلاحيات مجلس الشورى "الرقابية والتشريعية"، فكل الضرائب والرسوم وفرض ورفع رسوم الخدمات تتم من طرف واحد، وتكون جبرية على المجتمع، بل ونتفاجأ برسوم تُفرض دون إشراك مجلس الشورى أو المجالس البلدية، وفي مجلس الشورى سنجد مشروعية السمع والطاعة في الإجماع على القرارات والسياسات؛ لأنَّ جيوب المواطنين قد أصبحت مصدر دخل للموازنة؛ لأن الحكومة لم تعُد تصرف الأموال على المجتمع حتى يتنازل عن حقوقه السياسية ويكتفي بالحقوق الاقتصادية والمالية.
لذلك؛ فمنح الحقوق السياسية لدواعي الإجماع هو البوابة الوحيدة التي تصنع الاستقرار في عصر الضرائب والجبايات وانتهاء عصر الدولة الريعية، وبذلك نكون قد اقتربنا من أفكار وزير الاقتصاد العماني الجديد، وله كذلك مجموعة أفكار أخرى في مجال الاقتصاد وخططه المتعددة ودورها التنموي والتعليم والباحثين.. ونتطلع منه بلورتها في مجال وزارته والإقناع بها سياسيا بعدما أصبح جزءا من السلطة وفاعلا أساسيا فيها.