إنني أحب الكويت!

عبدالله الفارسي

 

لا أدري لماذا أعشق دولة الكويت، لماذا حين أسمع اسمها أشعر برشة من السعادة، وومضة من الارتياح، ولسعة من القشعريرة العذبة؟ هل لأنَّ هذه الدولة الحبيبة كانت في يوم ما مصدر رزق والدي وأهلي؟ فقد اشتغلَ أبي في الكويت وأطعمنا من مال الكويت، وبنى لنا بيتنا من رزق الكويت، وأسعدني بأول درَّاجة هوائية في حياتي جلبها لي من الكويت.

إنني أحب الكويت، أم لأنني كنت أعشق كل ما يصل إلى يدي من مجلات الكويت وكتبها وصحفها؟! أم لأنني معجب مغرم بثقافة الكويت ومثقفيها وأساتذتها ومفكريها وأقلامها؟!

لا أعلم السبب بالضبط، كل ما أعرفه ومتيقن منه هو أنني أحد عشاق الكويت. أذكر جيدا حين بدأ الغزو العراقي الغاشم على الكويت، أذكر ذاك الصباح التعيس حين استيقظنا على ذاك الخبر المفجع، وصفعنا ذلك النبأ المرير. أذكر تماما ذاك الغضب الذي تلبَّسني، وتلك اللعنات التي اجتاحت صدري درجة البكاء والنحيب، خرجت بسيارتي ووقفت على الرصيف أبكي كطفل يتيم شريد. أذكر كيف سقطتُ مريضا من هول الصدمة أتلوى في فراشي كدودة حقيرة.

إنني أحب الكويت...،

كانت لي عمة طيبة أحبها كثيرا انتقلت إلى الكويت مع ابنتها وزوجها في العام 1966، كحال كثير من العمانيين في تلك الفترة، بعضهم من قرر أن يستقر في الكويت، والغالبية العظمى آثرت العودة إلى وطنهم بعد بداية الحكم الجديد وقتذاك.

لم أكن أعرف شيئا عنهم، كل الذي أعرفه أنهم يسكنون في مدينة حولي، وأن زوج ابنة عمتي كان يعمل مُشرِفا للعمال في إحدى مدارس حولي، لكني كنت أحب أن أغامر في كل شيء خاصة في السفر. فقررت السفر والنزول في فندق رخيص، ثم البحث عنهم في مدينة حولي. حجزت تذكرني وقررت زيارة عمتي. وفي الطائرة صادفت عائلة عمانية، وجلس بجانبي طفلهم الأكبر، أذكره تماما كان اسمه غريبا جدا، ولذيذا في ذات الوقت ولا يمكن أن أنساه أبدا  كان اسمه "سرمد"، أعجبني الاسم، وقررت أنه حين أتورط يوما ما وأقرر الزواج وحين يرزقني الله بولد سأسميه "سرمد".

في الطائرة سألت سرمد: أين تسكنون في الكويت  يا سرمد؟ فقال بسرعة طفولية: في حولي، فقفزت فرحا يالله تسكنون مدينة حولي، إذن أنتم تعرفون عمتي عائشة. فقال الولد بنفس السرعة: نعم إنهم جيراننا، قبَّلته قبلة شكر وعرفان دون موافقته، فتجلل وجه حمرة خجلا وحياء.

إذن، لن أحتاج إلى فندق، ولن أحتاج إلى عناء البحث والتنقيب عن مكان بيت عمتي.

انتهينا من إجراءات دخولنا إلى المطار، وتعرفت على والد سرمد أثناء إنهاء إجراءات الدخول، وأخبرته عن قصة سفري وحكاية عمتي، فقال: أنت محظوظ، هذه المرة الوحيدة التي يتصالح معي الحظ ويحضنني بهذه الطريقة، بعدها لم أرَ الحظ ولم أسمع عنه أبدا حتى اللحظة!!

أخذنا سيارة أُجرة واحدة أنا وعائلة "أبو سرمد"، ركبت مع أبو سرمد في المقعد الأمامي، وزوجته وأطفاله الثلاثة أخذوا المقعد الخلفي، كان التاكسي من نوع شيفروليه كابرس موديل 98، من تلك النوعية الفاخرة والواسعة والمريحة.

وصلنا مدينة حولي، وقف التاكسي أمام بيت عمتي، وقال لي أبو سرمد: "هذا هو بيت الأخ أبو عبدالله.. ونحن بيتنا على بعد شارعين من هذا المكان.. ننتظر زيارتك". نزلت وأخذت حقيبتي ودعت "أبو سرمد" بابتسامة وعناق.

وقفتُ أمام بيت عمتي وكلي لهفة وشوق لرؤية وجه عمتي الذي لم أره منذ اثنى عشر عاما، طرقت الباب فتحه ابنها الأصغر محمد، اندهش من المنظر الذي أمامه؛ شاب عماني مبتسم وحقيبة على الأرض، قال لي: مَن أنت؟ قلت له: أنا عبدالله، أخبر أمك أن عبدالله ابن خالك وصل من عُمان الآن، وهو متسمر يرتعش من البرد على الباب. فقد كان الوقت شتاء، وكنا في شهر يناير، وكان برد الكويت يقص  المسمار إلى نصفين كما يقولون.

رغم أنني كنت مرتديا معطفا ثقيلا (جاكيت)، إلا أنه لم يقدم لي شيئا من الدفء، ولم يحمني من قرصة برد الكويت القارس.

دخل الولد فأخبر أمه عن صاحب الجاكيت الغريب المتسمر خلف أمام الباب، فجاءت ابنة عمتي تسبقها فرحتها وبهجتها بقدومي، فسحبتني من يدي إلى الداخل. ثم جاءت عمتي تتهلل بشرا وتتراقص سعادة، وأخذتني في حضنها كأنها تحضن ذاك الوطن البعيد الحبيب.

قضيت عشرة أيام في مدينة حولي كنت أتسكع في شوارعها، ولم أبتعد كثيرا عنها، معظم سكان حولي كانوا من الوافدين من مختلف الجنسيات، لكن ما لفت نظري هو دماثة الكويتيين وأخلاقهم وبشاشتهم الدائمة، وحبهم للعمانيين.

كُنت أذهب أحيانا إلى مطاعم المدينة في المساء؛ حيث يأتي الناس على شكل عائلات ومجموعات يتناولون الحلويات اللذيذة التي يتميز بها أهل الشام. كانت المطاعم واسعة نظيفة وأنيقة، وكان الكويتي يأتي بعائلته كاملة يجلسون خلف طاولة طويلة يتناولون الكنافة اللذيذة في ليالي الشتاء الباردة.

المنظر كان غريبا عليَّ، فنحن لم نعتد في تلك السنوات البعيدة دخول الأب وأسرته وجلوسهم في مطعم مفتوح أمام الجميع. بينما في الكويت كانت العقليات متقدمة كثيرا علينا، والعادات الاجتماعية منفتحة.

ما أجملهم وهم يأكلون معا ويضحكون ويتقشمرون ثم يخرجون ووجوهم محمرة من فرط المرح والسعادة.. ولسعة البرد!

كُنت أراقب تآلفهم وانسجامهم وأستمع إلى نكاتهم وسخرياتهم التي يتميَّز بها الكويتيون، وكأنني أتابع منظرا على شاشة تلفاز لمسلسل كويتي ممتع.

الشيء المذهل الذي رفع من رصيد حب الكويت في قلبي هو أنَّه حين حدث الغزو الغاشم، هرب كثير من الوافدين، لقد هرب زوج ابنة عمتي مع عائلته، نزح مع النازحين خوفا على حياتهم، وعاد إلى وطنه. ولم يحمل معه سوى بضعة دنانير قليلة كانت في بيته. وترك وظيفته وبيته وحقوق عمل دام أكثر من خمس وعشرين عاما. وصلوا إلى وطنهم عُمان منهكين، متألمين لا يملكون شيئا.

لكن حين نصر الله الكويت، وعادت الأمور كما كانت، واستقرت أوضاع الكويت وأهلها، ودفنوا جراحهم وحاولوا تناسِي فاجعتهم، بعد ستة أشهر فقط من عودة الكويت جاء اتصال إلى زوج ابنة عمتي من السفارة الكويتية في مسقط، فتفأجَأ الرجل بالاتصال، وذهب إلى السفارة وإذا بشيك فيه مبلغ بكل مستحقاته المالية ونهاية خدمته الطويلة في الكويت، ومعه رسالة شكر وتقدير من الحكومة الكويتية تدعوه فيها للعودة إلى الكويت في أي وقت يشاء.

شيء عجيب فريد وعظيم لا يمكن أن يحدث في دولة من دول العالم حدث معها ما حدث الكويت، لكنه حدث في الكويت.

ما أجمل الكويت وما أجمل شعبها، كم أحبك أيتها الكويت، وكم اشتهي زيارتك مرة أخرى.