العلم مطلب أساسي والأرواح غالية

ربيع بن صالح الأغبري

العلم لا شك أنه الهدف السامي والمطلب الأساسي لكل المجتمعات في العالم، ولكل الفئات والطوائف والأديان، ولكل الأعمار والأجناس، وليس هناك من يعزف عن العلم، أو لا يحث عليه، إلا إذا كان شاذًّا أو مختلا عقليًّا.

لكونه منقذَ البشرية، ومخرجها من ظلمات  الجهل، وسببا رئيسا في تقدمها ورقيها، إذن لن يختلف اثنان على أن العلم يقود صاحبه إلى العزة والكرامة، والسؤدد والأنفة والمهاباة، وهو حبل النجاة الممدود، الذي إذا ما تشبث به أحد حتما لن يكون من الهالكين. ومن هنا، تقع المسؤولية على الجميع، الفرد والأسرة والمجتمع والحكومات، لأن يتحمل الجميع مسؤوليته في الدفع بتجاه العلم والمعرفة، بشتى الوسائل والطرق دون التخلي عن أساليب الترغيب والترهيب، ولكن بحذر شديد، حتى يستطيع الجميع تجاوز العقبات والمشكلات، المتوقعة التي تشكل التحدي الأكبر في استمرار عجلة التعليم.

ولا يأتينا ذلك إلا برسم خطط بديلة على المستوى البعيد، ولا يكون هذا إلا بتنبؤ الأحداث التي قد تحدث مستقبلاً، دون إشارات مسبقة أو إنذار مبكر، ولا يستطيع التنبؤ بعثرات وعقبات المستقبل إلا إذا ما كان يتربع مؤسسة التعليم عالم نحرير، خبير قدير، مفكر وفاهم بأحداث الأولين، يعمل من أجل أن يعمل، وليس فقط من أجل أن يتقاضى من وراء ما عمل.

وإن ما حدث مؤخراً من أحداث كان ينبغي التنبه لها والتنبؤ بها، وأقصد ظهور الوباء الجائر الذي لا يفرق بين شخص وشخص، ولا يعرف حدودا ولا يعترف بخطوط حمراء، ولا بأخلاقيات ولا يهتم بالعلاقات، قد استطاع أن يعطل المسيرة التعليمية، ولو إلى حين، دون أية مراعاة أو تميز، واليوم أصبح العالم يعمل ليل نهار، ويخطط من أجل إيجاد وسائل لإعادة الطلاب إلى مدارسهم ودور علمهم.

وقد اختلفت أهداف الحكومات في القصد من عودة الطلاب إلى مدارسهم، منها كان هدفها سياسيا أو اقتصاديا، ومنها كان هدفها انتخابيا لكسب الرأي العام ونيل المصالح المبنية على مصالح الطلاب، ومنها كان الهدف منه محاكاة الدول، ومنها انفتحت على آراء هيئات دولية وإقليمية وصحية.

والدليل على ذلك، فتح المدارس في بعض البلاد الغربية، وحكوماتها على دراية تامة بخطورة هذه الخطوة لأنها على علم تام بأن ليس هناك حل مقنع لهذا الفيروس الخبيث في وقتنا الحالي، وأنه سريع الانتقال، من طالب إلى آلاف الطلاب، فيصيب الكثيرين، وهذا الذي قد حصل وحدث.

إذن، على الجميع تحمل مسؤولياته، وتقع المسؤولية الكبرى، على الجهات المختصة، في الحفاظ على الجيل الذي نعول عليه ونعتمد، وإن محاكاة الغرب أو الشرق في أفعالهم دون دراسة مستفيضة فقط بمجرد سماع آراء من هيئات دولية أو إقليمية أو صحية كل هذا غير كافٍ، وقد يُدخلنا في جُحر ضب لن نخرج منه دون أذية ومصائب سيُحمِّلنا التاريخ تبعاتها.

وسيذكرنا بها بين الحين والآخر، وسيلزم الصمت جميع من أشار إلينا أو من تتبعنا خطاه، بل سيكون في موضع الشامت المتفرج، وحتى لا نقع في المحظور، على الجهات المعنية أن لا تكرر أخطاء الأمس، وتتعجل في أمرها، وليس من العيب الرجوع عن أي قرار صدر من أي جهة كانت، وإن مصلحة الشعوب لا يعرفها ولا يقدرها إلا الشعوب أنفسهم.

وأقول ما فات فات، ولا يُجدي نفعاً أن نذكر ونتذكر أخطاء الأمس في كيفية العمل على ديمومة التعليم، وتدريب الطلاب من صفوفهم الدنيا وكيفية إيصال المعلومة إليهم، وإلقاء الدروس المقررة في مناهجهم عن بعد وعن قرب. مستغلين الطفرة العلمية، والأجهزة الحديثة التي كانت كفيلة أن يتعلم الطالب عن طريقها سواءً كان في مدرسته أو حتى على سرير نومه في منزله، ولكن نتيجة الانفراد بالرأي والقرار والعمل على قاعدة ما أُريكم إلا ما أرى، وقد وقع الذي وقع، إثر هذه القاعدة وهذه النظرة الأحادية لذلك، راجين عدم المجازفة بأرواح فلذات الأكباد، بفتح دور العلم أمام الطلاب، بسبب التسرع وبناءً على اقتراحات واجتهادات وتخمينات؛ لذلك الأولى التريث في اتخاذ قرار قد يُودي بحياة مئات الطلاب على أقل تقدير، من أبناء الوطن، وإلى أن تنكشف الأمور ويجود علينا الغرب بعقار وعلاج، قد يسوق لنا بشرى الخلاص بإذن الله، ومن هنا نطالب بالتريث، والتأني، إذ لا نطيق أن نسمع نفس الأسطوانة التي تعودنا عليها، إذا ما أصيب الطلاب وفقدنا الأحبة تُعلق المسؤولية على الطلاب، وولاة أمورهم، ونتهرَّب بما اقترفته أيدينا، بتحميلهم، تبعات الإصابات القاتلة، ونسمع غداً ما كرهنا سماعه اليوم، من تقريع وتحميل الطالب وأهله المسؤولية على أنهم لم يلتزموا، وقد خالفوا توجيهات المختصين، ونسمع الكلمة الشهيرة "نحن غير مسؤولين عن الذين لم يلتزموا بالتوجيهات وقرارات اللجنة المختصة"، وكيف للطلاب أن يدركوا ذلك، أليس كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته؟ إذن مسؤوليتهم تقع على من تعجَّل الأمر فأمر بفتح دور العلم أمام الطلاب.

وحديثي في هذه الفقرة لا يناقض نفسه، نعم العلم مطلب أساسي، وفيه مصالح عليا لكل إنسان، ولكن ليس بأي ثمن؛ فالأرواح غالية ودفع الضرر أولى من تقديم المصلحة، وتجنيب الطلاب المخاطر والحفاظ على صحتهم وأرواحهم يعد من دفع المضار، وإن هذا الوباء قد ثبت ضرره؛ إذ فتك بعشرات الآلاف من البشر، ومن جربه ليس كمن لم يجرب، إن هذا الفيروس قاتل ولا يتحمل أعراضة إلا القوي.

وقد يقول قائل تختلف الأعراض من شخص إلى شخص، لكن هذه حجة ركيكة سقيمة، واختلاف أعراضه مصيبة بعينها، وكأن هذا الداء يستدرج البشرية من حيث لا تعلم، وقد يصاب شخص ما ولا يعلم بإصابته، فيعيش في وهم على أنه من المحصنين أو أنه غير مصاب، وهذا ما يحدث ويظل يتنقل ويسافر ويخالط، وما هي إلا أيام يسيرة حتى يتضح أن الوباء انتقل منه إلى من خالطهم، قِس على ذلك لو طالب قد أصيب ولم تظهر عليه أعراض المرض وذهب إلى مدرسته، تخيَّل كم سيخالط؟ كم من إخوانه الطلاب سيلتقي؟ كم الأعداد التي ستُصاب؟ ومنهم من عنده أمراض مزمنة ومنهم من عنده ضعف جسدي وغير ذلك، حينها ماذا سيكون جواب الجهات المعنية؟ هل من جواب مقنع لأهاليهم؟

وباعتراف الجهات المختصة فإنَّ هذا الوباء غريب عجيب، وساقت لنا أمثلة على أنَّ هناك من تقيد بجميع التوجيهات وكان حريصاً على التباعد جسديا، ولبس الكمامة، وغسل يديه، وحافظ على التعقيم، وامتنع عن الناس وقلل من الزيارات، لكنه مع ذلك لم يسلم منه.

ناهيك عن أنَّ الآلية التي سمعنا عنها، أكاد أجزم بأنها لا يُرجى منها فائدة كبرى، وأقصد آلية التعليم عن بُعد، نعم تجدي نفعا لو كان الطلاب من الصفوف الدنيا عُوِّدوا على استخدام الطفرة العلمية، في تعليمهم واختباراتهم، مستعينين بما توصل إليه العصر من تقنيات، ولكن تأتي بين عشية وضحاها وتطالبهم بما لم يتعودوا عليه يعد هذا تحدياً آخر للطالب.

ناهيك عن ضعف الشبكات والمحطات التي لا تُؤهلك ولا تستطيع الاعتماد عليها في إرسال رسالة واستلامها، أو تحميل مقطع كان صوتيا أو مرئيا يزيد على دقيقة واحدة، ولا ننسى الذي عنده على أقل تقدير أربعة من أبنائه يدرسون ما دُون الدبلوم؛ فكيف له أن يوفر لكل واحد منهم حاسوبًا.

الخلاصة.. نداء إلى السلطات بعدم التسرُّع والتريث أولى، والأمانة ثقيلة، وأولادنا ومن يعيش على هذه الأرض الطيبة تقع مسؤوليته على عاتق الجميع، فقبل أن يقع المحظور، نطالب بأخذ الحيطة والحذر.. فالمجازفة بالأرواح ليست من القضاء والقدر، فلننتظر ولو لنهاية العام، لعل الله يأذن بالفرج.

وإذا كلا ولابد من الإصرار على المضي في الخطوة والقرار الذي اتُّخِذ، فإننا نطالب بأن نعمل تحت القاعدة السليمة التي تقول: رأي الجماعة لا تشقى البلاد به، رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها، وهنا نطلب من الحكومة إحالة هذا الموضوع الهام والحساس والخطير، إلى مجلسي الدولة والشورى؛ تشاركهم لجان من وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم، ومن أهل الرأي والخبرة المشهود لهم بذلك، لعلهم يخرجون بتوصيات، تبدد المخاوف، وتبعد المخاطر، ومن هنا سيصبح المواطن شريكا فيما يصل إليه المجتمعون من قرارات.

حينها إذا سارت الأمور على خير فذلك الذي نرجوه، وإذا غير ذلك ونسأل الله السلامة فالأمر يكون أهون نتيجة القرار الذي اتُّخذ، وقد شارك فيه المواطن ممثلاً بالمجالس البرلمانية، راجياً أن لا نُحكِّم العواطف في ما جاء في هذا المقال، ونبتعد قليلاً عن التعصب والاندفاع، وأن لا يُنظر إليه على أنه مصدر تحريض أو تكسير للمجاديف، وليس من العيب أن نتأمل فيه وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.

تعليق عبر الفيس بوك