حمود بن علي الطوقي
لا أدري لماذا وفي هذا التوقيت بالذات تذكَّرت أحد الأقارب في قريتي، ويدعى "بوكورو"، وكلمة بوكورو باللغة الرواندية تعني الكبير، هذا الاسم جاء به عندما رجع إلى عمان قَادِما من غرب إفريقيا في منتصف السبيعينيات، واستقرَّ في قريتنا "السباخ" حسب ما أفادني أحد أقربائه أنَّ اسمه خالد بن سعيد العيسري، لكنَّ الكثيرين من أبناء القرية يجهلون اسمه الحقيقي، كان رجلا بسيطا وشخصية محببة للقلب.
كانت سِنُّه فوق الخمسين عندما انتقل إلى جوار ربه، ولكن كان عقله لا ينمو وكأنك تعامل طفلا صغيرا، كان لطفيا لا يعرف ما يدور حوله من أحداث، رغم أن تلك الفترة كانت المنطقة ملتهبة بالأحداث السياسية كحرب الخليج الأولى والثانية، كان الأطفال الصغار يلتفون حوله، ولم يكن يُدرك أنه يكبرهم بخمسين سنة. تذكرته وأنا أتابع الأحداث الملتهبة الآن، والتي تعصف بالعالم من أمراض وانفجارات وبروز قضايا فساد وغسل أموال وصراعات بين القوى العظمى، شخصية صاحبنا "بكورو" سيطرت على عقلي الباطن، وتشكلت صورته في ذهني، وأجدني أغبطه لأنه كان لا يعرف أيَّ شيء، ولا يميز بين السياسة والاقتصاد، ولا بين العلم والجهل، ولا بين الكريم والحقود، كان منذ الصباح الباكر ينتقل من بيت إلى بيت وكأنه عصفور يطير من غصن إلى غصن، كانت أهم صفة يتَّصف بها حبُّه للنظافة، كان لا يأبي أن يطرق الباب ويدخل البيوت دون استئذان ليجد الترحيب من أهل الدار. ويخرج من الدار وقد حمل أكياسًا يتخلَّص منها في صندوق المخلفات، كان يطبق الحديث الشريف: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة".
لم يكُن مهمومًا في نهاية الشهر ينتظر الراتب الذي يتوزَّع بين إيجار منزل وأقساط سيارة ومستلزمات حياة تشتد صعوبة من عام إلى عام.
كان يعود نهاية يومه إلى بيته حاملاً أكياسًا فيها ما لذَّ وطاب من الطعام والحلويات، وكان الأطفال ينتظرونه على الطرقات ليوزِّع عليهم ما تجُود به نفسه الرحيمة بالسكاكر والحلوى والفواكه التي تملأ أكياسه.
أجمل ما أتذكره من صفات هذا الرجل بعقله الطفولي هو جهله بما يدور حوله من أحداث، كانت ابتسامته وضحكاته تتوزع على زقاق القرية، تحمل الهِمَّة والحيوية لشباب وأبناء القرية. كم اشتقتُ هذا الرجل، وكم أتمنى أن يمنحني ولو لساعات معدودة دماغه الفارغ، وأستبدله بدماغي الملغَّم، المسكون بتقلبات هذه الحياة المليئه بالغث والسمين.
لا شكَّ في كل قرية من قرى عُمان شخصية مشابهة لشخصية صديقنا "بوكورو"، كنت أراه عندما يَعيى من صولاته وجولاته طوال اليوم يفترش التراب بمصرِّه الملطَّخ بلون الورس، ويستسلم للنوم، وكان وجهه الطفولي يجبر المارِّين بعدم إيقاظه من نومه الهادئ.
كان يعرف أسماءنا ونتعمَّد نسأله، فكان يصفق لنفسه كونه أصاب الجواب، من غير أبناء القرية كان يعرف فقط اسم السلطان قابوس -رحمه الله وطيب ثراه- كان يحمل صورته، وعندما يُنَادَى باسم السلطان قابوس كان يقف منتصفا، ويلقي عليه التحية العسكرية، كان لا يعرف المسؤولين، ولا يهمه من يكون هذا: وزيرا أو غفيرا.. كان يهمه فقط أن يرى طرقات القرية نظيفة.
فكَم تكون محظوظًا عندما تُقابل شخصًا بمستوى هذا الرجل الطفولي الذي يُحِب الحياة بحلوها ومرها، ولا يتذمَّر لأن الحياة بالنسبة له محطة لابد أن تكون جميلة.. أهم شيء في الحياة أن تعيش بسلام.
وصدق المتنبي حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله...
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
هذا الرجل الطفولي البسيط كان يعيش بيننا في راحة بال لا تعكرها مشاكل ولا متطلبات الحياة البائسة.
فكم نحن بحاجة لمرحلة نجدِّد فيها حياتنا بمسح كل ما هو عالق في أدمغتنا الملتهبة بقضايا لا تُسمِن ولا تغني من جوع.