حاتم الطائي
◄ جلالة السلطان المعظم كشف ملامح إعادة الهيكلة في الخطاب التاريخي يوم 23 فبراير
◄ التطور والتحديث والتجدد.. سمات عُمانية أصيلة تحقق التقدم والرخاء
◄ إعادة هيكلة الجهاز الإداري أحد أوجه تجدد الدولة وديمومتها
◄ السلطنة ماضية بخطوات وئيدة نحو تحقيق تطلعاتها عبر "عمان 2040"
مُنذ فَجْر الحضارة الإنسانيَّة، والإنسانُ المتحضرُ يسعَى دائما إلى الارتقاءِ على سُلَّم الازدهار والتقدُّم، وكان شُغله الشاغل كيفية تأسيس منظومة حضارية تدُور في فلكها شؤون الدولة والحكم، وينعَم من خلالها المواطن بالرخاء والرفاهية، ولم تَكُن الدولة العُمانية على مدى تاريخها الضارب في جذور وعُمق هذه الحضارة، ببعيدٍ عن تِلك الجهود والمساعي الدؤوبة نحو بناء دولة حضارية ترتكزُ على منظومةٍ مُتكاملة من القيم والمبادئ والإجراءات التنظيمية والقواعد المُسيِّرة لشؤون العامة.
وقد تجلَّت هذه الجهود عبر حُقُب تاريخية مُضيئة، سطَّرها الإنسانُ العُماني بمدادٍ من نور العلم والمعرفة، ووثَّقها على أوراق العِزَّة وصفحات المجد في كُتب التاريخ القديم والمعاصر، وحافظَ عليها بصبرٍ وتأنٍّ ورغبةٍ في حماية مُقدَّرات الوطن ومكتسباته، وخيرُ دليل على ذلك الشواهد الحضارية من حولنا في كل بقاع عُمان الحبيبة، وهي مَعَالم تروي قصصًا ملحميَّة في جهود بناء الدولة والمحافظة عليها، وما ملوك وملكات عُمان القُدامى، وأئمتها، وقادتها، وسلاطينها على مرِّ العصور، إلا تجسيدٌ لهذه المَلَاحِم البطولية. وفي العصر الحديث، أطلقَ المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيَّب اللهُ ثراه- شارة النَّهضة مع تولِّيه زمام الحكم في مطلع العقد السابع من القرن العشرين؛ لتلحق عُمان بركب التقدم والرخاء في عصرِ الصاروخ والأقمار الاصطناعية... وغيرها من مظاهر التقدُّم وانعكاساته على كل مجال من مجالات الحياة. نهضةٌ شملتْ شتَّى أنحاء الوطن الغالي، ولم تترُك قطاعا إلا وكان له نصيب وافر منها؛ فتنعَّم المواطن في المدينة والريف والقرية والنيابة والبلدة والحي والولاية والمحافظة بمشروعات خدميَّة وتنموية وترفيهية، عزَّزت من النهضة الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن النهضة الإدارية والسياسية. وتلك الأخيرة كانت محلَّ تطوير وتحديث مُستمرَّيْن على مدى العقود الماضية، انطلقتْ بحِزمة من القوانين والتشريعات التي مهَّدت لبناء الدولة الحديثة، وشيَّدت أعمدتها من وزارات وهيئات ومؤسسات عامة ولجان ومجالس برلمانية، وبلغت أوجَّها مع إصدار النظام الأساسي للدولة عام 1996، وما تلاهُ كذلك من تشريعات طوَّرت أركان الدولة العمانية، وعززت قوة أداء الجهاز الإداري للدولة.
ومع المَقْدِم الميمون لحَضْرَة صَاحِب الجَلَالَة السُّلطَان هيثم بن طارق المعظم -حَفِظَه اللهُ ورَعَاه- وتولِّي جلالته مَقَاليد الحكم في 11 يناير 2020م، وجَّه جَلَالتُه خطابًا تاريخيًّا للأمة العُمانية في 23 فبراير 2020م، رَسَم خلاله ملامح المرحلة، وما ستشهده عُمان من تطوُّرات لاحقة، وكان أبرز ما أكد عليه جلالته -أيَّده الله- إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، عندما قال: "... فإنَّنا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل، وإعلاء قيمه ومبادئه وتبنِّي أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات، وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع مُتطلبات رؤيتنا وأهدافها". وخلال الأشهر التالية لهذا الخطاب، صَدَرت العديد من المراسيم السلطانية التي تُتَرجم بصدق -وفاءً بالعهد- هذه العزيمة السُّلطانية على إعادة الهيكلة، ليكتب بذلك -جلالته- تاريخًا مُتجدِّدا مُشرقا بشمس الإرادة السلطانية، ومنطلقا بيقين وأمل نحو تجديد الدماء في أركان ومرافق الدولة. وكان المرسوم السلطاني رقم (75/2020) في شأن الجهاز الإداري للدولة، والصادر يوم الخميس الماضي، جَوْهرة التاج في جُهُود إعادة الهيكلة، والخطوة التي ترقَّبها الجميع، فمثَّل المرسوم ثمرة مراسيم سُلطانية سابقة سعت جميعها لبناء منظومة جديدة متطورة، قُوامها التحديث والاستعانة بالكفاءات الشبابية التي يزخَر بها وطننا الحبيب، وتستمدُّ طاقتها الدافعة من التأييد المجتمعي الكبير لخطوات إعادة الهيكلة.
والحقُّ أنَّ ما مرَّت به عُمان خلال مسيرة نهضتها على مدى 5 عقود، كان يستلزمُ تفكيكَ القواعد التقليدية التي قامتْ على أساسها "الدولة العميقة"، والتي نَقصُد بها هُنا الهيئات والمؤسسات والوزارات التي مارست دورها الوطني على نحوٍ بيروقراطيٍّ وإجرائيٍّ، يخلو في كثير من الأحيان من الإبداع والتطوير الذاتي، وظلت الأوضاع رهنَ منظومةٍ إجرائيةٍ تقليديةٍ لا تستشرف المستقبل، فقط تُدِير الحاضر وتبنِي على الماضي. تفكيك القواعد التقليدية أنجزتُه الحكمة السلطانية باقتدارٍ وتميُّز، وأُجريت عملية إعادة الهيكلة دون تأثير سلبي على مُجريَات العمل الإداري لمؤسسات الدولة، وبأداءٍ رشيقٍ نال رِضَا المواطن والمتخصِّص؛ فقرارات الإحالة إلى التقاعد وتجديد دماء رؤساء الهيئات والمؤسسات وإعادة هيكلة الشركات الحكومية والصناديق السيادية وغير السيادية، والتعيينات الجديدة في المواقع الإدارية المختلفة، كُلها تمَّت على نحوٍ اتَّسم بالانسيابية والسهولة والاستقرار الإداري، فضلا عن استحداث مُؤسَّسات رسمية تُعِين صانع القرار على اتخاذ الأفضل والأكثر ملاءَمة في كل خطوة ونهج.
النظامُ الجديدُ للجهاز الإداري للدولة يُؤكد أنَّ عُمان ماضية بخطوات وئيدة نحو تحقيق تطلُّعاتها التي تجسدها الرؤية المستقبلية "عُمان 2040"؛ بمحاورها الأربعة الأصيلة: الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، والحوكمة والأداء المؤسسي، والبيئة المستدامة، وعندما نتمعَّن في النظام الجديد، نجد أنَّ هذه المحاور الأربعة مُتحقَّقة بالكامل، وأن هذا النظام يحشد -على أرضية تشريعية خالصة- القوَّة الإدارية اللازمة لإنجاز الرؤية المستقبلية. فمثلا؛ النظام الجديد يُلزم كل وحدات الجهاز الإداري للدولة بتقرير سنوي إلى مجلس الوزراء، تُذكر فيه أنشطة الوحدة، وإنجازتها المتحققة، وما واجهته من مصاعب عند تحقيق أهدافها، إلى جانب الحلول المبتكرة للتغلب عليها. وتلك آلية عمل منظمة واحترافية لا مثيل لها، وبالتزام كل وحدات الجهاز الإداري للدولة بهذه الآلية، تكون عُمان انتقلت إلى مراتب بالغة التقدُّم في العمل الإداري الحكومي، ولن أبالغ إذا قلت إننا في غضون 3 أعوام سنتربَّع على قِمَّة هرم الأداء الإداري على المستوى العربي والشرق الأوسط، ومن ثمَّ تحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040" في الموعد المحدد وربما قبله.
ونظام الإدارة في أي دولة بمثابة الجسر الذي تعبُر من فوقه الدولة نحو مستقر التنمية ومواقع الإنجاز والتقدم، وتطور العمل الإداري في عُمان آخذ في التطور والتبلور بما يُحقِّق ما ينشده سلطان البلاد المفدى -نَصَرَه الله- وما يتطلَّع إليه المواطن؛ فعُمان تستحق أنْ تتبوأ أعلى المراتب، وأن تُنجز ما تصبو إليه. وفي المقابل، على كل مواطن أن يُسهِم بحماس وحيوية في تطبيق هذه الأطر الجديدة، وأن يَدْعَم جهود إنجاحها بإيمان وعزم.
وختاما.. إنَّ الدولة العُمانية المتجددة على مرِّ التاريخ، تُوَاصِل مسيرتها نحو التنمية الشاملة والمستدامة، مُستَعِينة في ذلك بسواعد أبنائها البَرَرَة، المخلصين لقائدهم، العازمين على بذل الغالي والنفيس من أجل أن ترقَى عُمان وتسمو إلى سماوات السؤدد والرخاء، وسيكتُب التاريخُ أنَّ إعادة الهيكلة التي تحققت في العام 2020 كانتْ انطلاقة لثورةِ تصحيحٍ إداريٍّ واسعِ النطاق، وهمزة الوصل بين نهضة قابوسية وضعت الأسس المتنية للرخاء، ونهضة متجددة يقودها سلطان "توسمنا فيه من صفاتٍ وقدراتٍ تُؤهله لحمل هذه الأمانة...".