مصفوفة القرار

فاطمة الحارثية

لا أكاد أستوعب تغافل الكثير من المتلقين والمحللين عن حقيقة الاستبيانات واستطلاعات الرأي، فالأجوبة التي يضعها غالبية المشاركين فيها تعكس المثالية لديهم، وليس إلا القليل منهم من يضع أجوبة حقيقة ويتعامل مع الأسئلة المطروحة بشفافية؛ وهذا يقودنا دائماً إلى الإخفاق في وضع الاستنتاجات السليمة وبالتالي الحيلولة دون صناعة قرارات حقيقية؛ أضف إلى ذلك الاختلافات التي تظهر بسبب التضارب بين نتائج التحاليل المختلفة والواقع الميداني. كنَّا كثيرا ما نقول ونكرر أن الصوت العالي يأتي على حقوق المنطق الذي هو جوهر العقل والرزانة في الحوار، ليأتي عصر المثاليات والمظاهر الزائفة المستترة خلف ملفات وأقوال الدراسات العلمية والدبلوماسيات.

إنَّ الحرص على الصورة الذهنية التي تضع ركائز للشهرة والسمعة مهم جدا، لدوره في نجاح وفاعلية "القيمة الوجودية"، ولتحديد الاستراتيجيات العلمية في صناعة تفاعل الجماهير، ومنه فهم السلوك الإنساني والغايات ومراعاتها في خطط البناء والتحسين. لا يمكن فهم الاتجاهات بدون الإدراك الحقيقي للوعي المجمعي والبيئة المراد التأثير فيها، والقدرة على غرس وقيادة الانطباعات المطلوبة بلغة المتلقي من أبعاد عاطفية ومنطقية مقبولة بأدوات تفاعلية حقيقية وليس الاستبيانات أو المسح البياني التي استطاعت تغذية الجزء الأكبر من طوح وخيال صانعها، لكنها لم تستوفِ حق سلوك المتلقي كطبائع وليس كأماني. 

آليات التفاعل وإدارة المواقف لبلوغ أية غاية أو إرساء فكر ما في الوقت الراهن لا نجدها متقنة، والتي وجب أن تكون ضمن استشراف استراتيجي وخطط تنفيذية مرنة، تعمل بشفافية لصناعة صور ذهنية حقيقية، لما يجب عليه أو يُتوقع كرد فعل يُشكل الانطباعات وحس السمعة الحسنة. إننا بحاجة إلى منظور ومفاهيم قيادية عصرية، تعمل على بناء مزيج يتأقلم ويناسب أحدث الممارسات الواقعية في مجال "ذكاء الشهرة"، لفهم أعمق حول كيفية بناء واستدامة وتقييم "الشهرة"؛ سألت أحدهم ذات نهار:

  • لماذا مازلت تعمل في هذا المكان؟ وأنت تمتلك شركتك الخاصة وفروعها وهي ناجحة ولها مكانتها السوقية؟
  • فجاء جوابه: لا تخالي أنني بحاجة حتى إلى هذا الراتب فأنا أصرف أكثر منه ولا أكاد استخدم منه شيئاً، لكن دعيني أعلمك شيئاً يا فاطمة، المال ليس كل شيء وصدقيني ليس ممتعاً، فالمتعة الحقيقية ولا ينافسها أي أمر آخر حتى المال هي النفوذ.
  • النفوذ؟
  • نعم فاطمة "النفوذ" أقوى من المال.

فهل تتفق معه؟ وهل هناك سُبل لتمكين أصحاب الاهتمام عن كيفية صناعة النفوذ والهيمنة حوله؟، كثيراً ما قرأت وسمعت عن "أصحاب العلاقة والمصلحة" فهل هم من ضمن إطار "النفوذ"؟، بالارتكاز على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية فهل المنطق يُعطي تعريفاً مهنياً واضحاً لمصفوفة "النفوذ"؟ وإلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يحتفظ بنفوذه، ويُبقي الركائز التي يتوكأ عليها قائمة وأيضاً مدد تلك المؤهلات والخدمات؟. في المقابل هل ما نلاحظه ممن لا يملكون النفوذ في أحيان كثيرة إذ يأتون على "نبرة وأسلوب التواصل"، كمنهج مخطط له ومدروس كي يبلغوا غاياتهم؟، وهل يستخدمون نظريات "لفت الانتباه" المختلفة سواء  عبر منصات التواصل أو الاتصالات المتعددة؟. على ضفاف تلك الوقائع والرابط بين استطلاعات الرأي، التي من السهل جداً التلاعب بها، والرغبات التي يحكمها "النفوذ" والتي قد نجمع عليها جميعاً أنها المؤثر الحقيقي القادر على تغيير أية نتائج استطلاعية أو علمية حقيقية لخدمة "رغبة". ولا ينكر أحدٌ أن الغالب قد استسلم لتلك القوة ولا يرى الحاجة إلى تغييرها أو حتى تحسينها، لأنها كانت منذ الأزل وسوف تبقى تريق الحقوق وتحكم الفرص "اللعبة".

يطالب الكثير من الناس بالشفافية ولكن لنكن واقعيين، ما مدى ما يرغبون بالفعل بسماعه، لاحظ ذلك "غالباً نحن لا نسمع إلا ما نرغب به"، أي ثمة قرار وحكم مسبق في تسيير العالم حسب مصالحنا الشخصية، أو بالأصح لأننا لا نعلم الغيب بالتالي لا نعلم مصالحنا حقيقة فيكون التسيير هنا حسب "رغباتنا"، وإن أتت على غير ذلك تبدأ أحداث "الضحية والمظلوم" بالظهور ليأخذ الأمر منحنى نقر شره وخيره حسب منفعتنا "لعبة الخير والشر" وثلاثية الظالم والمظلوم والعدالة التي  يريدها كل طرف حسبما يشتهي. لا يوجد إلزام بالمعرفة أو طرق تغذية فكرية إلا بسعي المتلقي نحوها، على المرسل العرض الشفاف والمنطقي والعاطفي وعلى المتلقي الإلمام وفهم المحتوى بما لا يتعارض مع فحواه والقصد، ويبقى الأمر مرهوناً ومتروكاً على المتلقي، وليس على المرسل حرج إذا ما كان فكره أكثر وعياً ومرونة من عُقد المتلقي.

جسر...

لنا أن نقبل قول "قوة وهيمنة النفوذ" ونستسلم أيضاً للاستبيانات واستطلاعات الرأي المبرمجة لخدمة غاية ما، والذي قد يقودنا إلى التوجيه والقيادة الاجتماعية الآلية وليس العلمية الواقعية، ولنا أيضاً خيار القيادة الاستشرافية للمواقف والتجديد السليم البعيد المدى لأنَّ الأمر يستغرق وقتاً فالجماهير تحتاج إلى برهان ملموس لتقبّل المتغيرات، ولنا أيضاً رؤية الأمور من مختلف المعطيات والتوازن بين التكيف والتغيير، القرار يبقى لنا ومنا.