الشقراء بين الحلال والحرام! (2)

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

أما إيمانويل كانط، فكانت القهوة في أواخر أيامه، وفي هذا الموضوع بالذات، وتحت عنوان مُباشر هو "آخر أيام إيمانويل كانط"، فيصف الفيلسوف توماس دي كوينسي "اعتياده تناول القهوة كل ليلة بعد العشاء مباشرة"، في طقس كان يستطيبه لدرجة أنَّه كلما استشعر أن ثمَّة احتمالاً بألا يحصل على مشروبه المفضل إذا وقع مشهد مثير للاهتمام، ويتحتم إحضار القهوة في المكان والزمان، وذلك كان التعبير اللصيق به في أيامه الأخيرة.

ولما كان دي كوينسي يتوقع ذلك، كان يحرص على أن تكون حبوب القهوة مطحونة، والماء مغلياً، حتى إذا حانت اللحظة التي يصدر فيها الأمر، ينطلق خادم كانط كالسهم ليضع القهوة في الماء، ولكن حتى هذا التأخير الضئيل كان لا يبدو محتملاً بالنسبة لكانط. (5)

من تأثيرات القهوة على الإنسان وصحته فقد ثبت طبياً أن الرجل عندما يتناول القهوة تزيد عنده نسبة الحيوانات المنوية؛ إذ توصلت دراسة أجراها معهد "Eunice Kennedy Shriver National" لصحة الأطفال، إلى أنَّ الرجال الذين يشربون كوبين من القهوة أو الشاي في اليوم، تزداد لديهم فرص الإنجاب بمقدار الضعف.

وأوضح الباحثون أنَّ نتائج الدراسة الأمريكية يمكن أن تكون بسبب تأثير مادة الكافيين على مادتين كيميائيتين هما ATP وGTP، وقالت البروفيسورة، شيينا لويس، من جامعة كوينز في Belfast: "يمنع الكافيين الرجال من الانهيار، ما يوفر الطاقة المتاحة للحيوانات المنوية، حتى تتمكن من السباحة في السائل المنوي بشكل أسرع ولمدة أطول". ويعتقد أيضاً أن جرعات كبيرة من القهوة يمكن أن تُؤدي إلى التهاب البروستاتا.

وفي الكويت عرفت القهوة قبل الاستقلال بعقود واشتهرت بين أهل البادية وأهل المدينة والقرى، وانتشرت مقاهي القهوة ولعل أشهرها مقهى بو ناشي (6)، وهناك تقاليد معروفة في الكويت وأغلب دول الخليج بالنسبة لتقديم القهوة للضيوف، ومنها ما يعرف بالآداب المرعية في صب القهوة، فلا يُملأ الفنجان إلى نصفه، بل ثلثه وأقل منه بقليل، ويتعاهد الجالس مرة بعد مرة إلى أن يشعره بالاكتفاء قولاً أو بهز الفنجان فعلاً. (7)

وعلى ذكر القهوة الكويتية العربية، فكل من يعرف عادات تقديم القهوة لاشك يفهم معنى هزة الفنجان عند الضيف، ومعناها الاكتفاء فيتوقف المضيف أو القهوجي عن مناولته لها، ويقال هناك قصة وراء هزة الفنجان، ومما تواتر وذكر عند العرب أن العرب قديما" كانوا يختارون لتقديم القهوة في المجالس الرجال الصم من لا يملكون حاسة السمع لتقديم القهوة، ولأنهم لايسمعون فيتم هز الفنجان كعلامة للاكتفاء، فيفهمها القهوجي ويتوقف، والمعنى الدارج وقتها أنَّ البدو في مجالسهم (غالباً هذه المجالس في بيوت الشعر) يجتمعون حول غزوات أو اجتماعات خاصة تتعلق بأمور لايرغب بالإفصاح عنها أو تعتبر سرية، ولأنَّ القهوجي (صباب القهوة) يكون داخل الجلسة وهو من يُدير فناجين القهوة (وقتذاك لم يعرف الشاي وغيره، فكانت القهوة هي علامة الضيافة)، فكان من المهم ألا يعلم بما يدور، لذلك يتم اختيار الصم الذين لايسمعون كلام الألسن حتى لاينتشر الخبر ويبقى طي الكتمان،  لا أعلم بالضبط دقة هذا الأمر لكنه بالتأكيد يتواتر عند الكثير.

وقيل في القهوة العديد من الأشعار والقصائد ومنها قصيدة باللهجة العامية الكويتية للشاعر سالم بن تويم الدواي- رحمه الله- (8) يقول في مطلعها:

الصبح محلى شبوب النار

لاصرت مرتاح ومصلي

وحمست بنٍ من النيبار

تجلي الهواجيس وتسلي

شقرا ومذعورةٍ ببهار

شف النشاما وشف لي

وسبحان من بدل الأحوال أصبحت القهوة بعدما احتارت الأديان في تحريمها هي المفضلة لكثير من سكان الأرض، بل وأصبحت تجارتها هي الثانية عالمياً بعد النفط، وأصبحت جزءًا من تقاليد وعادات الشعوب، حتى في عصر الأجهزة الذكية أصبحت صور القراءة بجانب فنجان قهوة هي الأشهر وربما الأكثر، حتى أني أحياناً أطرح سؤالا: هل لا يُمكن أن تضبط صورة قراءة كتاب أو صحيفة ورقية إلا بجانب فنجان قهوة؟

وأختم هذه الكلمات بموقف معبر وطريف له علاقة بالقهوة، أحد الأيام وجدت أحدهم يُؤشر بيده على ناصية طريق ووقفت له وركب معي (كانت سيارته متعطلة) وأثناء أحاديث الطريق معه سألته أين تعمل، قال في المكان الفلاني، وماهي وظيفتك: قال أنا أهم شخصية بالمبنى! قلت أكيد أنت المدير، قال لا، قلت: إذن ما هي أهميتك؟ قال أنا قهوجي المدير، لا يستريح خاطره إلا بعد التكييف على فنجان ساخن من حضرتنا!

ويتبادر في ذهني: هل صحيح أن فراش المدير.. مدير؟

 

______________________

5- نفس المصدر السابق (راجع الجزء الأول من المقال).

6- أعتقد أن الاسم التجاري لمقهى بو ناشي لا يزال موجودا حتى الآن في الكويت

7- مقال: القهوة الكويتية.. أصالة وعراقة، د. سعود العصفور، جريدة القبس الكويتية  25 مايو 2018

8- سالم بن تويم الدواي، شاعر كويتي (1920- 1997)  من أشهر الشعراء في الشعر العامي والمحاورة الشعرية.