الشرق الأوسط أو «الشر… الأسط» ألف مقال ومقال (6)

 

د. مجدي العفيفي

 

"واندثرت الإمبراطوريات وبقي الشرق دعاء وسماء".

(31)

تُنبئنا الشواهد التاريخية والمشاهد الراهنة والحقائق الجغرافية- السياسية منها والطبيعية - أنَّ قدر هذه المنطقة من العالم أن تتحقق فيها ثنائيات تبدو متعارضة، وهي الخاصية التي تجعل منها شعلة نور ونار .. نقطة جذب واستقطاب.. تجاذب وتنافر ..

وليس من قبيل المصادفة أن يتجاور النور والظلام، ويتجادل الحق والباطل، وتتحاور الروحانية مع المادية.. ويتصارع حديث السلام والسلاح.. كلما انطفأت نار اشتعل جحيم.. مقدر عليها أن تظل في حالة يقظة لا تعرف الغفلة ولا السنة ولا النوم، وفي الوقت ذاته تأتيها الغواية من حيث لا تحتسب وتحتسب.. !

وكل هذه الأمور بغض النظر عن الإيجابية من السلبية، هي من أقوى جماليات هذه المنطقة بتجلياتها وتداعياتها.. ومن ثم تظل- رغم أنف وحشية الغرب الحاقد والطامع - عذوبة شرقنا التي يتجلى بها تتعالى رغم عذاباته.. إلا قليلا.. وتظل طاقة شعوب المنطقة تفوق الطاقة التي يلهث الغرب الأوروبي والأمريكي لاستنزافها أو ابتياعها بثمن بخس دولارات يستردها أضعافاً مضاعفة، بصورة وحشية أو بأخرى.

(32)

كل الذين أطلقوا على أنفسهم مسمى «الإمبراطوريات» وهماً وزوراً وصلفاً وغطرسة، اندحروا وأصابتهم الشيخوخة الحضارية، وتجمدت دوراتهم السياسية، ودارت عليهم الدوائر كبغاة غلاظ مسعورين لاستلاب الثروات الطبيعية والإنسانية الكامنة في قلب إنسان الشرق ووجدانه، الذي لا يعرفون كيف يدركون أسراره الشرقية .. وهيهات هيهات..!.

 ولقد تساءلت مرارا وتكرارا في أطروحات سابقة، وسأظل، رغم أنف النفوس الضعيفة التي لا تعرف قيمة الأشياء الجوهرية وتنظر إلى سفاسف الأمور وقشورها، وهم أدوات رخيصة وأبواق ناعقة لأسيادهم ممن يجندوهم لخدمة المآرب الأخرى لاسيما في السياسة وبالأخص في الإعلام، باعتبار أنه من أهم عناوين هذا العصر بريقاً وحريقاً ورحيقاً..

أقول إنَّ علامات الاستفهام والاستنكار لا تزال ناشبة أظافرها: أين الإمبراطورية الفرنسية التي ظهرت في القرن الثامن عشر ثم انتحرت على صخور الشرق.. لتطلع الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشرلتغرب شمسها الكاذبة وتنقرض وتنزوي وراء البحار عجوزاً شمطاء، ثم تغشت العالم موجات ألمانية وإيطالية وروسية ثم أمريكية، وتظل الأخيرة تبهر الأنظار بالكاوبوي وقد حجبت الأخريات، بشكل أو بآخر ثم راحت تنفرد وتستفرد بالعالم المسكين منذ بداية (مهرجان 11 سبتمبر) إياه، وهذا مستحيل لأنه ضد سنن الحياة وقوانين الكون، وهي التي كانت مرشحة للسقوط وليس الاتحاد السوفيتي، كما أشار إلى ذلك منظرون أمريكيون وقد شهد شاهد من أهلها.

(33)

عدم معرفة أسرار الشرق ..هو أكبر خطأ وخطيئة أوروبية وغربية عموماً في حق شرقنا العربي تحديدا.. وأنًّـى لهم ذلك، وطوفان الحقد غشيهم ولا يزال يتغشاهم.

ومنذ العام 1954 في أجواء تلك الفترة التي اشتعلت فيها حركات التحرر الوطني.. يصدح صوت موسيقار الأجيال«محمد عبد الوهاب» وعبقريتة الموسيقية التي التحمت في حميمية بكلمات الشاعر الرائع «محمود حسن إسماعيل» فكان«دعاء الشرق» بسحره وسره وحسه وحدسه ونفسه، وكأنَّه يهتف به لأجيال اليوم.. وأحداث اللحظة.. وعذابات الراهن.. لعل موضة الإفاقة تتجلى:

ياسماء الشرق طوفي بالضياء

وانشري شمسك في كل سماء

ذكريـــه وأذكـــري أيـامه

بهدى الحق ونور الأنبياء

،،،،،،،،،،،،،،،،

 صدقت أيها الشاعر الشرقي الأصيل، وشهادتك ليست مجروحة:

كانت الدنيا ظلاماً حوله

وهو يهدي بخطاه الحائرينا

أرضه لم تعرف القيد ولا  

خفضت إلا لبارئها الجبينا

،،،،،،،،،،،،،،،،

وشرق لم يخفض رأسه إلا لرب المشارق والمغارب.. رب السماء والأرض رب العالمين، لا يقبل أبدا أن ينحني لغاصب شرس عنصري جاهلي، ولابد أن ينتفض ولو بعد حين:

كيف يمشي في ثراها غاصب

 يملأ الأفق جراحا وأنينا

كيف من جناتها يجني المنى

ونُرى في ظلها كالغرباء

 (34)

يقظة كامنة تتجلى بها الذات الشرقية يلقيها كل شرقي في وجه ذلك المتغطرس الذي يدعي التحضر وهو الشكلي فقط، واسألوا الحربين العالميتين اللتين جعلتا أوروبا كالقطة التي أكلت بنيها، وأثبتتا أن الحضارة الغربية وهم كبير ومغالطة أكبر..

أيها السائل عن راياتنا

لم تزل خفاقة في الشهب

تشعل الماضي وتسقي ناره

عزة الشرق وبأس العرب

سيرانا الدهر نمضي خلفها

وحدة مشبوبة باللهب

أمما شتى ولكن العلا

جمعتنا أمة يوم الندا

،،،،،،،،،،،،،،،،

وهنا يشق الحق حجب الباطل الوهمي ويبعث برسالة نارية ونورانية لذلك الغربي لعله يفهم .. لعله يفقه .. لعله يدرك :

 نحن شعب عربي واحد

ضمه في حومة البعث طريق

الهدى والحق من أعلامه

وإباء الروح والعهدُ الوثيق

 أذن الفجر على أيامنا

وسرى فوق روابيها الشروق

كل قيد حوله من دمنا

جذوة تدعو قلوب الشهداء

،،،،،،،،،،،،،،،،

تحدثنا الذاكرة الفنية - والفن سياسة في المقام الأول- أنه بعد مرور حوالي ست سنوات من احتلال فلسطين عام 1948 وبعد حوالي سنتين من ثورة يوليو 1952 المصرية، كان الشعور في العالم العربي لا يزال مليئاً بالأمل في أن ينهض هذا العالم العربي ليستعيد الأرض المُحتلة، ويحقق الوحدة العربية، وفي هذا الجو العام كتب الشاعر محمود حسن إسماعيل هذه القصيدة، فالشرق العربي الذي ظهرت منه الرسالات السماوية، كيف يرضى أن تحتل أرضه من الغاصبين، وقد لحن عبد الوهاب هذه القصيدة بلحن شرقي أصيل، لا يزال يطرز الوجدان، ولوحات معلقة على جدران الوطن العربي خاصة والشرقي عموما.