حراك بيئي في ظفار

 

علي بن سالم كفيتان

ما زلت أذكر تمامًا ذلك الشاب الدَّمث الذي قَدِم إلى مكتبي ذات يوم، بعد أن تخرج، ويرغب في قضاء فترة التدريب العملي معنا؛ ففي العادة نستقبل في الصيف عددًا محدودًا من الطلاب المتخرجين في المجالات المتعلقة بالشأن البيئي.

كان هذا الشاب هو مُحمَّد عكعاك، طبعًا قضى معنا فترة الثلاثة أشهر المقررة، وكان مواظبا على العمل وكأنه موظف رسمي، بل ويقضي المزيد من الساعات بعد انتهاء العمل، وكنت أسعد بالجلوس معه أحياناً إلى العصر، ونحن نصنِّف النباتات التي جمعها من الحقل، ونقوم بعملية تجفيفها وحفظها، فتحول قسم صون الطبيعة إلى خزين من المعلومات المهمة عن الغطاء النباتي، طبعا هذا الشاب لم ينقطع عنا بعد انقضاء فترة التدريب، بل أكملها عشرَ حجج وترسَّخت علاقتنا بعد أن أصبح مُعلِّماً في ولايته الجميلة رخيوت، وأثناء تلك الفترة عمل على ترسيخ حب الطبيعة في نفوس طلابه، وتبنى مشاريع الاستزراع داخل مدرسته، فصار نهجاً تنافسيا في الولاية ومن ثم عموم المحافظة.

إنَّه الناشط البيئي مُحمَّد مبارك عكعاك الذي قاده الشغف بحب الطبيعة لإكمال دراسة الماجستير في علوم البيئة في المملكة المتحدة، وهو ذات الرجل الذي يقود اليوم حراكًا بيئيًّا كبيرًا في الجنوب لاجتثاث النباتات الغازية من البيئة المحلية، وعلى رأسها نبتة البارثنيوم التي استحوذت على مساحات واسعة من المراعي الطبيعية في ظفار في غفلة من الجهات الرسمية.

عَمل عكعاك بمهنية عالية لإطلاق حملته تلك؛ فقد تابع التقارير الفنية والأوراق العلمية المنشورة عن نبتة البارثنيوم؛ ومنها: دراسة للدكتورة شاهينا غضنفر التي عملت في السلطنة لسنوات، وهي اليوم خبيرة نباتات في حدائق إدنبره النباتية الشهيرة؛ فقد أطلقت الدكتورة غضنفر صفارات الإنذار بأنَّ جبال ظفار ستتحول إلى صحراء بعد أن تقضي نبتة البارثنيوم على ما تبقى من التنوع الأحيائي الهش هناك، عن طريق انتشارها الواسع على حساب النباتات الطبيعية، وعدوانيتها البيولوجية تجاه أي نباتات أو أشجار مجاورة، إضافة إلى تقارير من دول سبَّبت فيها هذه النبتة خسائر فادحة للمجتمعات الزراعية كالهند وأستراليا وغيرها، وبعد أن توالفت الحقائق، وقام عكعاك وزملاؤه من النشطاء البيئيين بزيارات استقصائية لمعرفة مدى الانتشار ومناطق التأثير، بدأت المهمة الأصعب، وهي إقناع المجتمع المحلي بخطورة الموقف.

كان الرِّهان على الجانب الرسمي لمعالجة الوضع ضعيفاً؛ فالأمر سيتطلب تقديم طلبات وإقناع المسؤولين البيئيين والزراعيين وبيوت الخبرة بأهمية التحرك السريع، وكالعادة سيتفنَّن هؤلاء في طلب الإفادات وتمحيصها لأشهر، وربما لسنوات، وفي النهاية ستتم الإفادة بأنه لا توجد موازنة لمثل هذه الأعمال في الجهات المعنية، خاصةً في ظل موسم التقشف وانتشار كورونا وأخواتها؛ لذلك أطلقت الحملة عبر موقع الناشط البيئي عكعاك، عن طريق بث مواد علمية رصينة تثبت بما لا يدع مجال للشك أن هذه النبتة دخيلة وضارة، وانتشارها سيسبب ضررًا بالغا للمجتمع الرعوي في ظفار؛ مما سينعكس على تدهور التنوع الأحيائي وفقدان الكثير من الأنواع النباتية التي تنفرد بها المحافظة، وأكاد أجزم بأنه عندما يلامس الموضوع الاحتياج الفعلي للمواطن فإنه يهب لحماية مصالحه، ومن هنا انطلق الرعاة كأول المؤيدين ليقينهم بأن فقدان مساحات جديدة من المراعي يعني عبئاً ماليًّا إضافيًّا على كاهلهم؛ فلغة المصالح المشتركة وفن التفاوض البيئي، لا بد أن يُجيدها علماء البيئة ونشطاؤها ومسؤولوها؛ لأنَّ اللغة الخشبية التي تنتهجها الجهات الرسمية المسؤولة لم تجدِ نفعا، وهنا سنسأل: كيف لمادة إعلامية بسيطة أعدها ناشط بيئي أن تحرك مجتمعا بأكمله، في حين عجزت دوائر الإعلام والتوعية في الوزارات والمؤسسات المعنية بحماية البيئة ومكافحة التصحر طوال نصف قرن؟!

كان على عكعاك أنْ يُثبت لمتابعيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنَّه أول من يقوم بتطبيق قناعاته، فأطلق حملة الإزالة من منطقة أمبروف بولاية رخيوت، عبر عدد محدود من النشطاء، وهذا يمنحنا درسا آخر بأنَّ المبادرة يجب أن يتم تطبيقها ميدانيًّا؛ فلغة التنظير المطلق عبر المطويات والتقارير المزركشة التي تعرض على المسؤول هي مجرد هدر للمال العام.

اليوم.. هبَّت ظفار من أقصاها إلى أقصاها لمكافحة هذه النبتة الضارة، وأزيلت من مساحات شاسعة، ولا يزال العمل مستمراً، وإن كانت لنا من كلمة شكر فيجب أن نُقدمها للمجتمع الحي الحارس لمصالحه وثرواته الذي يهب لحماية وطنه بما يملك من قدرات، ولا بد من تسجيل وقفة احترام لبلدية ظفار التي انطلقت مع المجتمع بعيدا عن الروتين؛ فشاهدنا سياراتها وعمالها في الميدان مع الناس.

وأخيرا أقول: وُلِد لنا جيل جديد من الناس سينهضون بحماية بيئتهم وحماية مكتسباتهم، أرجو أن تكونوا عونا لهم بما تملكون، وستعود ظفار خضراء جميلة كما كانت دوما واحة للوطن.

-----------------

نقطة على السطر:

"لن نطالب بإنشاء جمعية بيئية أو فريق عمل بيئي؛ لأن الأمر يواجه الكثير من التحديات".