شروط الاستوزار الجديدة

د. عبدالله باحجاج

ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوافر في كل من يتولى منصب وزاري أو مناصب رفيعة في العهد الجديد؟

من الأهمية أن نطرح هذا التساؤل الآن لعدة اعتبارات مهمة وعاجلة؛ أبرزها: الحقبة السياسية الجديدة لبلادنا، وتبني خيار التجديد للنهضة العمانية، وكذلك مستويات النزاهة المأمولة للنهضة المتجددة، وانكشاف أسباب الفشل في مجموعة قضايا وطنية مصيرية، كتنويع مصادر الدخل، وتبديد موارد الدولة بأوجه متعددة ومختلفة، وتعطيل القطاع اللوجستي رغم الأهمية المتعاظمة للموقع الجواستراتيجي لبلادنا، واعتماد أمننا الغذائي على الخارج.

وطبيعة العلة لم تعد سرية أو ملتبسة الآن، وإنما أصبحت واضحة للعيان، وهى تكمن في الفاعلين الوزاريين وآخرين في قطاعات عمومية شرفوا وائْتُمِنُوا على مسؤولية قطاعات مصيرية في البلاد، فلم ينجحوا فيها، وجعلوا بلادنا رهينة الأزمات المالية والنفطية على عكس شركاتهم الناجحة، وقد طرحنا في مقال قديم التساؤل التالي: كيف نجحوا في شركاتهم وفشلوا في وزاراتهم؟

لذلك.. لا بُد من المساءلة والمحاسبة كما اقترحناها في مقالنا الأخير المعنون "المساءلة والمحاسبة.. من أهم حقوق المجتمع"، ونعتبرها الخطوة الحتمية في مسيرة تجسيد النزاهة في مسيرة النهضة المتجددة، لأن نجاح كبار المسؤولين في شركاتهم وفشلهم في الوزارات والقطاعات العمومية يطرح مجموعة تساؤلات كبرى، لا يمكن إثباتها إلا عن طريق المساءلة السياسية ومن ثم المحاسبة القانونية، رغم أنها واضحة!

وكل من تابع النقلة الفجائية لموانينا العمانية من عجز كلي "مصطنع" للاستيراد إلى قدرة "حقيقية" كلية للاستيراد بُعيْد اندلاع جائحة كورونا، لا بُد أن يتساءل عن السبب!! فهل بين ليلة وضحاها قد تم تجهيزها للاستيراد؟ وقد حاولوا منذ عدة عقود إقناع المجتمع بعدم جاهزية هذه الموانئ للاستيراد من الأسواق العالمية مباشرة، وإنما عن طريق موانئ مجاورة، وكلما حاول بعض التجار الاستفادة من موانينا يضعون أمامه مجموعة عراقيل حتى تثنيهم عن فكرتهم نهائيًا، فيصبح أمامهم السوق الإقليمي وبالتحديد الإماراتي هو الخيار المفروض عليهم.

ولو بحثنا في كل قطاع اقتصادي تراهن عليها الآن الرؤية المستقبلية "عُمان 2040"، سنجد أن الإخفاق وراءه سلبية فاعليه وليس في مقوماته أو إمكانياته، وهي- أي السلبية- منطقة تحطمت فيها كل استراتيجيات وسياسات بلادنا.. فلماذا؟!

يعود ذلك إلى طبيعة المصانع التي كانت تنتج النخب؛ فقد كانت قائمة على أساس الولاءات وليس الكفاءات، أو بسبب المنظومة الوزارية التي تجمعهم أو الأهواء والأمزجة التي يديرون بها القطاعات والوزارات بعيدًا عن أية مساءلة ومحاسبة، وقد نجدها كلها أسباب مجتمعة.

ويشكل تغيير الفاعلين على مستوى الوزراء وفي مستوياتهم القيادية، الشغل الشاغل للرأي العام في البلاد، وهو المرتقب اجتماعيًا، لذلك علينا التركيز الآن على الشروط الواجبة التي ينبغي أن تتوافر لدى كل فاعل وزاري جديد أو مسؤول كبير يتولى شرف مسؤولية المساهمة في تأسيس بناءات النهضة العمانية المتجددة. والتركيز على الشروط يعني أولا التخلي عن المصانع الاستوزارية وما في مستوياتها التقليدية، والانفتاح على المواطن في كامل ترابه الوطني وفق معايير الشروط الواجبة، فالإبقاء على المصانع مع تطبيق الشروط، قد لا تتوافر كل الشروط فيها من جهة، وتعني كذلك استمرارية إقصاء التكنوقراط؛ لأنها تحصر الاختيارات على نطاقات الرؤية المركزية والمحدود، وعلى مجموعة الأوصياء الذين انتهى عهدهم.

وهذه الشروط هي: الكفاءة الوطنية، ونظافتها التاريخية، والبُعد عن تقاطعات وتقاربات المصالح والفساد واللوبيات، والدفاع عن السيادة الوطنية وعدم الولاء للأجنبي بما فيهم صندوق النقد والبنك الدوليين، وليس بالضرورة في المقابل، أن يكونوا أعداءً لهما، وكذلك يكون لديهم هاجس مرتفع بالوطنية والديموغرافيا والجغرافيا في ظل تحدياتها الراهنة والمستقبلية، ويكونوا من أكبر المتحمسين لـ"رؤية 2040".

وعندما نبحث في ملف فتح أبواب بلادنا لخبراء صندوق النقد والبنك الدوليين سنكتشف أنه نتيجة نقص الكفاءات والثقافة الأكاديمية الغربية التي تشبع بها بعض النخب أو تبعيتهم للخارج، مما يجعلهم يجهلون الأوضاع الاجتماعية أو يتعمدون الجهل، خاصة إذا ما كانوا من مراكز سلطوية، وهذه المراكز من بين المصانع التي تنتج النخب من أبنائها غير رابطة الدم، ويتم تدويرها على المواقع الحكومية والعمومية.

وتلكم الشروط الواجبة في الفاعلين الجدد للنهضة المتجددة، لن نجدها في مخرجات مصانع النخب الوزارية وكبار المسؤولين على مدى العقود الماضية؛ لأن اختيار النخب كان يتم وفق معايير شخصية ونفعية، واعتبارات اجتماعية ومؤسسية، عن طريق تزكية لوبيات قوية صاحبة ثقة من السلطة السياسية، تحولت بعد تاريخ طويل من التمكين أو بحكم منصبها المؤثر" إلى ما يمكن أن نطلق عليه "الأوصياء" على المجتمع ونخبه، فهي تختار من تشاء، وتزكي من تشاء، وتقصي آخرين، حتى لو كانوا كفاءات تتمتع بالنزاهة، لكننا الآن نعتقد أنه قد انتهى عهدها.

وبالتالي.. فلا غرابة أن تشهد البلاد إخفاقًا في تطبيق "رؤية 1996" و"رؤية 2020"، وتتواصل معها الآلام الاجتماعية حتى الآن، وكل هذا أنتج لنا: قضايا محتقنة جدًا، كالباحثين عن عمل، والمُسرَّحين، وتوسيع قاعدة المتقاعدين، وتزايد القابلية لتدني المستويات المعيشية خلال المرحلة المقبلة، ولنا تصور تداعيات هذه المشاهد قريبًا!

لذلك نرى أن من بين الخطوات الأولى للإصلاح، اختيار النخب الجديدة وفق تلكم الشروط المعيارية، وهى التي ستكسب الرضا الاجتماعي، وستحول بوصلة الإحباط الاجتماعي إلى بوصلة للتفاؤل، ولا يمكن التقليل من أهمية هذا الرضا، خاصة الآن بعد ما أصبح تقاطع التحديات الجيواستراتيجية مع تحدياتنا الداخلية مسألة تستلزم التفكير فيها، وتدعو إلى تصويب سياساتنا المالية للتخفيف من حدة تأثيرها على المجتمع.

وهذا هدف استراتيجي عاجل سيُمكِّن بلادنا من تأخير انفجار تلكم القضايا حتى تتم معالجتها، على عكس لو أتينا بنخب جديدة من المصانع التقليدية ومتشبعة بثقافة صندوق النقد والبنك الدوليين، ولا تتوافر فيها تلكم الشروط، فستكون رسائل سلبية، وستكون هذه النخب منصاعة لإملاءات الخارج على حساب الداخل، إضافة إلى أننا في نهضة متجددة، وهى تعني التجديد في الأشخاص والأفكار والآليات لدواعي الإصلاح بمختلف مدده الزمنية، والعمل على المدى القصير هو التحدي الأكبر لحل القضايا المحتقنة.

ولو سألنا كل واحد من النخب المستوزرة عن طبيعة الإنجازات التي تحققت في فتراتهم: هل سنجد في أجندتهم ما يجعلهم يفتخرون به أو يشفع لهم للبقاء؟

حديثنا هنا عن الإنجازات الاستراتيجية التي تؤمِّن وتحصِّن البلاد من الأنواء المالية والاقتصادية، أو تلكم التي ساهمت في تعزيز السيكولوجية الوطنية والتكاملية المناطقية، وليس عن تعبيد طريق وإنارته أو إقامة مدرسة هنا وهناك.. إلخ؛ وحتى في مثل هذه القضايا- رغم أهميتها- لا يمكن أن نجد الإنجاز المدهش، مع الاستثناء، ففيروس كورنا كشف لنا التمركز الجامد للخدمات الأساسية في مسقط، وإذا ما خرجنا خارجها، وتعمقنا في خروجنا للمحافظات البعيدة عنها، سيظهر حجم المعاناة التي يعاني منها المواطنين في الأزمات أو حتى في الأحوال الاعتيادية.

لذلك، طبيعة المرحلة الوطنية الجديدة، وهى مرحلة ما بعد كورونا، ومرحلة تطبيق "رؤية 2040"، ومرحلة الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوت، ومرحلة الثقل الاجتماعي على هذه المرحلة، وملفاتها التي وصلت حدة احتقاناتها إلى مرحلة متقدمة، كل ذلك يدفع بإرادتنا السياسية إلى أن يكون اختيار النخب الجديدة برجماتيًا ومنفتحًا ووفق تلكم الشروط؛ فكل تحدٍ منها يحتم البرجماتية في الاختيار، وأن يكون المعيار الحاسم هو الكفاءات على قاعدة الولاء والانتماء الوطني، وذلكم نعتبره من أهم عوامل نجاح المرحلة الوطنية بعد أن توافرت فيها سلطة سياسية جديدة، تملك الإرادة القوية على التجديد، وتعمل منذ تسلمها السلطة على تحديث مضامين البناء القائم وفق مفهوم التجديد؛ كنظرية تسلم بالواقع، لكنها تؤمن بتجديده، لكي تواكب النهضة المتجددة العصر المتطور وتحدياته التنموية، وبذلك تبتعد عن نظرية الهدم من أجل إعادة البناء، وهى بذلك تنحاز للنظرية الإنجليزية في التجديد والإصلاح، على عكس النظرية الفرنسية التي تقوم على الهدم ومن ثم إعادة البناء.

من هنا نتفاءل كثيرًا بأن مسار التجديد في بلادنا سيكون من أولوياته اختيار النخب الصالحة للمرحلة من جهة، والمؤهلة لكل قطاع من القطاعات والمؤسسات الحكومية والعمومية من جهة ثانية، ونراه قريبًا، فذلك ما تستوجبه مرحلة التحضير لتطبيق رؤية 2040 في بداية يناير 2021، كما إنها من بين أهم المطالب الاجتماعية، وهذا لا يعني أننا ضد تكرار النخب أو إعادة إنتاجها، لكن أن تكون من منظور ماذا قدمت من إنجازات تفتخر بها وتحظى بالرضا الاجتماعي؟