عبد الله العليان
زرتُ الجزائر بلد المليون شهيد، مرات عديدة، آخرها كانت في شهر أكتوبر 2010، وكلها كانت في مؤتمرات سياسية وفكرية، وهذا البلد المناضل تربينا على محبته وتقديره وإكباره، منذ نعومة أظفارنا، بسبب تضحياته الرائعة لنيل الاستقلال من فرنسا، ليعيش حراً أبياً في هذا البلد العربي الكبير.
ولا تزال هذه النظرة مسكونة في قلوبنا وأذهاننا، وكنا في كل هذه المؤتمرات نقيم في فندق الصنوبر، وهو من الفنادق الكبيرة المعروفة في عاصمة الجزائر، وكنت من المعتادين على قراءة الصحف اليومية، وهذا ما تعّودت عليه حتى قبل الذهاب للامتحانات، عندما كنت أدرس في قاهرة المعز في أوائل الثمانينات من القرن الماضي. وقد لفت نظري في صباحات تلك الأيام التي قضيتها في الجزائر، أن الصحافة اليومية، وحتى بعض المجلات الأسبوعية كلها باللغة الفرنسية، ولا توجد منها صحيفة عربية واحدة! وسألت بعض العاملين في الفندق، لماذا لا توجد صحف عربية في هذا الفندق؟ فلم أجد منهم إجابة شافية طوال أيام الإقامة بالجزائر. والذي نعرفه أنَّ الرئيس الراحل هواري بو مدين الذي حكم الجزائر، بعد الرئيس أحمد بن بلا، الذي تولى الحكم بعد الاستقلال مباشرة، لعب دوراً مهماً في قضية التعريب، خلال فترة حكمه، لكن الأمر كما يبدو أن اللغة الفرنسية، بعد مرور أكثر من خمسين عاماً حتى تاريخ تلك الزيارة، لا يزال تأثيرها قويا في بلد المليون شهيد، بعد ما قام به المستعمر من محاولات لطمس وتذويب هوية البلد بالعنف تارة وبالجبروت تارة أخرى، فكيف يتم ذلك لغة؟
هذا ما ذكرني بكتابات المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، الذي كتب عن التأثير الاستعماري في البلدان التي استعمرها، ومنها بلده الجزائر، وبرز هذا القول منه في العديد من المؤلفات، وسمى هذا التأثير الخطير بمصطلح "القابلية للاستعمار"، وهذه القابلية كما يصفها مالك بن نبي، هي التي تعززت أو تفرخت، بوجود هذا المستعمر ليسهل عليه، السيطرة الفكرية في المقام الأول في الداخل، وهي أهم الأهداف الاستعمارية، بحيث تفعل القابلية فعلها في تغييب الوعي عن السياسات التي تنهض بالبلد، وتجعله أكثر تأخراً بعد رحيله، أو على الأقل جعله مرتبطاً به ثقافياً وسياسياً واقتصاديا، أو متراجعاً في مجالات عديدة، من حيث التردي والجمود والضعف، وهذا الأمر لا ينطبق على الجزائر فقط، بل هذا تم في الكثير من البلدان التي تم استعمارها، والأغرب أن أغلب مؤلفات ومحاضرات هذا الفيلسوف والمفكر العربي الجزائري، تشير إلى قضية "القابلية للاستعمار" كونها ظاهرة في مسألة القابلية، والتي لم يتطرق لها مفكر آخر غيره، لكن الأكاديمي المغربي د. محمد عابد الجابري، أشار في كتابه "المسألة الثقافية"، إلى أن "بعض المثقفين العرب يتحولون إلى "عملاء حضاريين للغرب". ونسب هذه المقولة إلى الأكاديمي المصري د. أنورعبدالملك، والحقيقة أنَّ الاستعمار يتحرك في البلدان التي تُستعمر، بطرق وأساليب عديدة، من أجل السيطرة والاستحواذ سياسياً وعسكرياً وثقافياً.
لكن المفكر مالك بن نبي، يرى أن من أخطر المشاكل التي عانتها البلاد العربية، ومنها الجزائر، هي قضية الاستعمار والقابلية له، وهذه الأخيرة أخطر من الأولى، لأنها في داخلنا وفي عقول بعضنا، وهي التي يستفيد منها الاستعمار، استفادة كبيرة وخطيرة، ويقول مالك في هذا الصدد:"إن الاستعمار يمارس عمله وتأثيره بوصفه حقيقة عندما يكف النشاط كفاً فعلياً، وهو يمارسهما بوصفه أسطورة عندما لا يكون سوى تعلة أو قناعا للقابلية للاستعمار.
ثمة حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن نواظرنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء، فلم نر منها غير الظواهر، هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار، بل بالقابلية له، فهي التي تدعوه.. فقد يكون الاستعمار أثراً سعيداً من آثار تلك القابلية، لأنه يقلب حينئذ التطور الاجتماعي الذي أوجد المخلوق القابل.
وهذه التأثيرات التي أوجدها الاستعمار، بفعل القابلية له، وفق نظرية مالك بن نبي، موجودة ولافتة لكل صاحب بصيرة نافذة، في وقتنا الحالي، ونجدها مبثوثة في كتابات ومؤلفات بعضهم، وفي مقابلاتهم، وكأن الأمر لديهم قضية مسلمة، أو تعتبر لديهم- هذه القابلية- رؤية للتقدم والنهضة، عندما نكون جزءًا من الغرب، في كل حياته ونظرته وتصرفاته، فهؤلاء ينتقلون ويتقلبون معه، في كل شاردة وواردة، ونرى عندما يكتبون في قضايا فكرية، فإنهم، لا يحيدون عن فكر الغرب ورؤيته، وربما يزايدون عليه في بعض القضايا، التي تختص بالهوية العربية، ليبرزوا أن القابلية اكتملت لديهم، وهم في هذا متمسكون بمسألة "طي الصفحة" و"القطيعة التامة" مع فكرنا العربي وتراثه، ويقولون دون خجل إنه: "لا إلحاق إلا بالالتحاق"، أي الالتحاق بالغرب، وهذه هي بالطبع القابلية بكل صورها وتوجهاتها وإفرازاتها.
ومن خلال متابعتي لبعض مؤلفات هؤلاء، فبعضهم لا يكتبون باللغة العربية- مع إجادتها- وهي موجهة للعرب! بل يكتبون باللغة الأجنبية، وخاصة اللغة الفرنسية، ويتم الطلب من بعض المتخصصين في الترجمات، ليترجم لهم مؤلفاتهم، إمعاناً وإبرازاً لتأثيرات القابلية لديهم، ويعتقدون أنهم تحرروا مما يسمونه "الماضوية"، مع أن الغرب عندما أقصى الكنيسة، عاد يستلهم منذ ألف عام، التراث الروماني، ليشّيد به عصر التنوير المعاصر!