د. حسين غباش رحل وترك إرثا نتمسك به

 

عبد النبي العكري **

** كاتب بحريني

جاء صوت د. محمد عبيد غباش عبر الهاتف حزيناً صباح الثلاثاء 21 يوليو 2020 "يعطيك عمره العزيز حسين توفي صباح اليوم"، ووجدتني أغرق في حزن عميق. فعلى امتداد الأسابيع الماضية كنت على تواصل مع الصديق محمد أتابع معه الحالة الصحية لأخيه الصديق د. حسين عبيد غباش والذي كان طريح الفراش في مستشفى كليفلاند في أبوظبي؛ حيث أجريت له عمليه في القلب، وتكللت بالنجاح لكنه أصيب بالتهاب رئوي تسبب في وفاته.

مرَّ بخيالي شريط ذكريات عمره خمسة عقود من الصداقة والآمال المشتركة وأحلام ملايين العرب بدءًا من مشاركتنا في مهرجان الشباب في برلين في يونيو 1973 حتى آخر لقائي به في دبي في أوائل 2018. فقد كان كلانا حريصين على اللقاء رغم ظروف المنافي وعدم الاستقرار. في لقائي الأخير معه عرض لتجربة كتابه "محمد"- صلى الله عليه وسلم- باللغة العربية وترجمته للعديد من اللغات من ماليزيا شرقاً إلى أمريكا اللاتينية غرباً؛ حيث تبنت هيئات ومراكز ثقافية وأهلية طباعة الكتاب بكميات كبيرة ليتاح للجمهور الواسع الحصول على الكتاب بسعر زهيد ويسير.أخذته هذه التجربة إلى العديد من بلدان العالم لتدشين وإطلاق الكتاب ومناقشته في سابقة هي الأولى عربيًا. والمهم أنَّه قدَّم النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- كشخصية إنسانية قريبة من الإنسان العادي والتي يأنس إليها عن قرب.

ينتمي د. حسين غباش إلى عائلة غباش الوطنية العريقة والتي قدمت للإمارات وللخليج وللعرب شخصيات مرموقة من السياسيين والدبلوماسيين والأكاديميين والأطباء والأدباء وذوي تخصصات مختلفة من الرجال والنساء وكان لهم دور بارز في بناء ونهضة الإمارات العربية المتحدة والجهد الخليجي المشترك التعليمي والثقافي والإعلامي، والعمل العربي المشترك والتعاون الدولي، الرسمي والأهلي.

عرفت المرحوم حسين غباش في مراحل مختلفة من حياته؛ حيث كان يحرص أن يزورنا في المنفى الدمشقي من وقت لآخر وفي إحداها مع زوجته. كما سافرت معه إلى لبنان. التقيته في واشنطن عندما كان دبلوماسيًا في سفارة الإمارات في واشنطن وفي ذات الوقت يحضر للماجستير في جامعة واشنطن.

لكن مما هو مثير للإعجاب هو تركه للمنصب الدبلوماسي والانتقال إلى باريس وتعلم اللغة الفرنسية في عمر متأخر نسبياً وإتقانها والالتحاق بممثلية الإمارات في اليونسكو وفي ذات الوقت الانخراط في مهمة إعداد الدكتوراه في جامعة السوربون، وكان موضوعها "عُمان.. الديمقراطية الإسلامية 1500- 1970"، واستعرض فيها تجربة الحكم الإباضي العقداني في عُمان. ونشر الأطروحة ككتاب باللغة الإنجليزية عن دار روتردج وبالعربية عن دار الجديد. واستضاف مركز الدراسات العمانية في جامعه السلطان قابوس د. حسين غباش في ديسمبر 2009 لإلقاء محاضرة بعنوان "خصوصية الثقافة العمانية"، كما شارك في منتديات عمانية أخرى. ويُعد كتاب "عمان الديمقراطية الإسلامية" من أهم المصادر التاريخية والدينية والفكرية حول عُمان. وإسهام الراحل في التأليف والذي يتناول البحوث الاجتماعية والحقوقية، وقد صدر له عن دار الفارابي عددٌ من الكتب ومنها "أمريكا وحقوق الإنسان" و"فلسطين.. حقوق الإنسان وحدود المنطق الصهيوني"، و"الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة"، و"الجذور الثقافية لديمقراطية في الخليج.. الكويت والبحرين"، و"التصوف.. معراج الصالحين إلى الله"، وتوج مسيرة التأليف الحافلة بكتاب "محمد.. قراءة حديثة في سيرة رسول النور والسلام"، ولم يقتصر إنتاجه على إصدار الكتاب بالعربية، بل إصداره بعدة لغات تتكلمها عدة شعوب من شرق آسيا حتى أمريكا اللاتينية وما بينهما أوروبا وأفريقيا.

وفي لقائي الأخير معه في دبي، عرض لمشروعه الطموح وهو المساهمة في التصدي للتطرف باسم الإسلام وبالمقابل تشويه الإسلام والكراهية ضد المسلمين أو "الإسلام فوبيا"، وذلك بتقديم نبي الإسلام محمد بن عبد الله كشخصية إنسانية داعية للمحبة والتعايش والسلام فيما بين مختلف البشر والشعوب والأقوام. المهم هنا وصول الكتاب وما يتضمنه من أفكار إلى أوسع نطاق وإلى القارئ العادي بثمن زهيد ويسير. ولتحقيق هذه المهمة الكبيرة والصعبة فقد نجح في الوصول إلى منظمات ومراكز ثقافية ودينية واجتماعية تتولى ترتيبات الترجمة وصبغ الكتاب باللغة المحلية وترويجه بحضور المؤلف وتوزيعه على نطاق واسع. وقد حكى لي بعض فصول هذه المهمة المعقدة والجريئة في بعض البلدان مثل ماليزيا وإسبانيا.

الجانب الآخر في غنى شخصيته وتعدد مواهبه، يكمن في قدرته ونجاحه في أكثر من مهمة؛ فهو الدبلوماسي الذي مثل بلاده في واشنطن وباريس واليونسكو وفي مقر وزارة الخارجية بأبوظبي. لكن المهم هنا هو أنه كان يتابع دراساته العُليا لنيل الماجستير في جامعة واشنطن ثم نيل الدكتوراه في جامعة السوربون في باريس وتعلم وإتقان اللغة الفرنسية. في ذات الوقت فقد كان منكبًا على التأليف والكتابة الصحفية وإلقاء المحاضرات القيمة. ويسجل له هنا معالجته المبكرة لخطورة التغييرات الديمغرافية في بلدان الخليج العربي وقضايا حساسة أخرى ضمنها في كتابه "الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة"؛ حيث تستعاد اليوم بقوة أطروحاته في ضوء الأزمة المركبة الحالية وهي الأخطر في تاريخ الخليج.

وقد يكون د. حسين غباش هو أول خليجي يقوم بالتدريس باللغة الفرنسية في جامعة القديس جوزيف في بيروت.

اليوم نستشعر الخسارة الكبيرة بفقدان د. حسين غباش وقد كان بيننا ولم نستفد بما فيه الكفاية من علمه وبصيرته وهي دعوة لمُناقشه أطروحاته لإعادة طبع كتبه وترويجها ومناقشتها على أوسع نطاق.