ناجي بن جمعة البلوشي
في نفس الزمن الذي سارت فيه الدول الخليجية إلى التوجه نحو استيراد كل النمو الحضاري من الأمم الأخرى، تكونت معها قناعة تامة، لكنها غير مُطلقة الاقتناع، مفادها أنَّها تُواكب كل حضارات العالم، وأن ما معها من وسائل انتقال وتقدم ستساعدها على تلك المواكبة، هذه القناعة لم تكن فقط عند الحكومات كدولة، بل إنها وصلت للمجتمعات بمكوناتها الإنسانية، رغم افتقارها حتى من العنصر الإنساني المكون لذلك الانتقال والمواكبة الموصلة إلى ذلك المكان والمستوى.
ولأننا لا نُريد أن نذهب إلى أبعد عن موضوعنا الذي نحنُ في شأنه؛ فبقاؤنا فيه يبتدي من القناعة التامة المطلقة إلى عدم الاستكفاء المطلق لدى تلك الدول من خدمات ومهارة الأجانب في الوظائف الحكومية أو القطاع الخاص (تصنيعا أو إنتاجا أو خدمات)، لكنَّها على الرغم من أنها لم تصل بعد إلى ذلك الاكتفاء، سارت في مسار واسع لإيجاد الفرص الوظيفية لمواطنيها في القطاع الحكومي والخاص كخطط إستراتيجية تضع من خلالها أبناءها مكان أولئك الأجانب، مع الاستفادة من عوائدها النفطية في تكوين جيل مُتجدِّد من العاملين والشاغلين لتلك المناصب، وبهذه الإستراتيجية بدأت تتَّضح لها النتائج الواضحة؛ فمنها من وصل إلى شبه الاكتمال في القطاع الحكومي من التوظيف في وظائف اعتيادية روتينية؛ ومنها من لا يزال يعمل على ذلك، وكما هي تسير في ذلك النحو من الاعتماد على مواطنيها في شغل أماكن الأجانب، والاكتفاء من خدماتهم، كانت تتجدَّد في كل مرة مع هذه الخطوات إنتاجات لمنتجات جديدة تكون ربما تحديات متجددة في المقابل لهذه الخطوات، فتبقى تلك الخطوات بطيئة لما يقابلها من طفرة النمو الحضاري في الأمم الأخرى.
ولقصر المساحات في كتابة المقالات، فإن بحثنا هنا سينصبُّ على مسار إيجاد فرص العمل للمواطنين العمانيين في القطاع الخاص، هذا المسار واسع النطاق والبعيد للرؤيا المستقبلية الذي سارت فيه بعض الدول الخليجية على مسار السلطنة، كان مُثقلا بكثيرا من التحديات المقتصرة على المشرع والعامل وصاحب العمل، ونحن هنا في سلطنة عُمان حالنا من حال تلك الدول، عِشنا مع تلك التحديات، لكننا وصلنا إلى مُستوى يمكن أن نصفه عن قناعة بأنه مستوى مرضٍ لنا يستوجب شكرَ كل القائمين عليه.
ولأنَّ لكل مرحلة زمنية نماذجَ وأساليبَ نجاح يُتطلب البحث عنها وإيجادها والعمل بها، فإننا نرى أنَّ الوضع اليوم مختلف عمَّا كنا عليه في سياسة مسيرة إيجاد فرص العمل والتوظيف، ويتحتم علينا إعادة التفكير في منظومة خلق وإيجاد الفرص الوظيفية للعمانيين في القطاع الخاص؛ بمعناها المتعارف عليه بالتعمين برُمتها، واستبدالها بمنظومة جديدة تتماشى مع الواقع الذي حتَّم علينا أن نكون فيه دولة اقتصادية عالمية تفتح أبوابها لكل المستثمرين والزائرين والسائحين، مستفيدة بذلك من شبه اكتمال البنية الأساسية المختلفة إن كانت من جانبها المادي كالموانئ والمطارات والفنادق والمنتجعات والطرق...إلخ، أو من جانبها المعنوي كالقبول بالتعايش مع الآخر واحترام الثقافة والتقارب الفكري والرقي المعرفي والفني...إلخ. وفي كوننا دولة ماضية إلى مستوى رؤيتها المستقبلية "عمان 2040" التي تتطلب منا فهمَ المرحلة ومُتطلباتها، والانضمام إلى ما تحتاجه من ركوب للحضارة، مع الثبات على كل مبادئ القومية العمانية العربية الإسلامية الأصيلة والتوفيق بينهما ليشكلا بذلك مسارًا يُوصلنا إلى هدف محدد وهو الرقي الحضاري الشامل الذي تعيشه باقي الأمم العالمية، كما نراه ونقرأ عنه ونقارنه بدولنا وأفراد مجتمعاتنا، ولأنَّ المجتمعات كلها في حالة متغيرات دائمة توصلها إلى طابع التشكل الحضاري، ثم إلى الاكتمال الحضاري، ثم إلى الرُّقي والنمو الحضاري الذي يصدر للآخرين.
لهذا؛ تجدنا في حالة انتقالية دائمة تُعنى بالتحضر المجتمعي والرقي في المستويات الإنسانية، وهذا طابع طبيعي تسير فيه كل مجتمعات دول العالم، إلا من يتوقف عن الركب، ويبقى فيما فيه من حال، فالإنسان العماني الذي كان يُسافر قبل النهضة المباركة ليحصل على لقمة العيش بأي مهنة ومستوى معيشي ودخل مالي، ليس هو ذاك المواطن الذي نحدده بفترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ لأنه كان يقارن تفضيله على العمل في بلده بأي مهنة ومستوى معيشي ودخل مالي عن الغربة وما بها من تفاصيل، كما أن المواطن في سنوات ما بعد 2000 مختلف اختلافا واضحا في قبوله للعمل بأي مستوى ومهنة وظيفية وراتب شهري؛ فالتحاقه بالعمل في منشآت القطاع الخاص كان واضحا ومقيدا بالأرقام عن ذلك الذي يعيش بعد 2010؛ فهو يفضل العمل على مستوى لا يكون فيه باحثا عن العمل في بلاده، بل ولا يرتضي بتحمل المسؤولية المطلقة أو الامتثال لها، فكيف به يكون الأجنبي عليه مسؤولا، إنه يفضل تقديم خدماته وتجارته وأعماله لبني جنسيته، أو من في مستواه العمري والفكري، أكثر مما يقدمها للآخرين، وليكن بذلك بعيدا عن الأجنبي عن طبيعته ومزاجاته.
المواطن العماني مر بمراحل تشكُّل حضارية مرتبطة مع مراحل طلبه للعمل والقالب الاجتماعي الذي يعيشه؛ فهو اليوم في مرحلة المكانة الاجتماعية والمستوى الرفيع، ولتجد هذا واضحا عند متابعتك نشره معلومات العمل والوظيفة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو تصويره لمحتويات مكتبه وسيارات عمله وملابسه العسكرية... وغيرها؛ مما يعني مكانته ومستواه في العمل، وهو كذلك في الحياة الطبيعية: المؤسسات الصغيرة التي أسسها العُمانيون تتسم الغالبية العظمى من منتجاتها باستهداف المواطن، أو من نفس القالب الذي به رائد العمل دون التفكير في السوق وما يحتاجه، وهذا ما نعيشه اليوم واقعا في هذه الفترة.