عبد الله العليان
في أغسطس 1979، شاركت مع بعض الزملاء الشباب، حيث كنَّا مُمثلين عن الأندية بالسلطنة بأنشطتها المُختلفة، في الملتقى الشبابي السابع بالمملكة المغربية، وكان على مستوى الوطن العربي، وعددنا تقريباً 25 شاباً من كافة أندية السلطنة، إلى جانب بعض المُشاركين من وزارة الإعلام وشؤون الشباب لكونها الجهة المسؤولة عن أنشطة الشباب بما فيها الأندية الثقافية والرياضية.
وأقيم هذا الملتقى على هامش مؤتمر للشباب بحضور بعض المسؤولين، وكانت الأنشطة بهذا الملتقى مُتعددة الجوانب، ثقافية، وأدبية، ورياضية، إلى جانب الحوارات والمُسابقات وغيرها من المناشط العديدة، وغالبيتنا نحن المشاركين من السلطنة، لم يسبق لنا زيارة هذا البلد التاريخي الجميل، إلى جانب دماثة وأخلاق شعبه وتعاملهم مع المُشاركين، وكانت أيام رائعة قضيناها هناك، من حيث ترتيب برنامج للزيارات والجولات لكل المُشاركين في أغلب ربوعها، ولا تزال هذه الزيارة ماثلة في الذاكرة، لما لها من أثر طيب عن هذا البلد العريق، ثم كانت لي زيارة أخرى للمغرب في عام 1984، متابعاً للقمة العربية الطارئة، التي عُقدت في الدار البيضاء، وتلتها زيارات عدة في العقد الماضي، وكلها كانت في مؤتمرات فكرية وثقافية في العاصمة الرباط.
لفت نظري في هذا الملتقى الشبابي، انضمام مجموعات من الشباب المغربي إلينا، من كل الأحزاب المغربية المُرخصة بالنشاط السياسي، وإن كان بعضهم أكبر منِّا سناً، وهذا حدث مع كل الوفود المُشاركة في هذا الملتقى بمشاركة الكتل السياسية، وكنَّا نحن الوفد العُماني المشارك سكناً في المدرسة المحمدية للمهندسين مع بعض الوفود الأخرى، وكان هؤلاء الممثلون للأحزاب المغربية، يسألوننا في قضايا سياسية وفكرية وثقافية، وكنَّا نتحاور معهم في هذه القضايا، وكانت رحابتهم للحوار ممتازة وإيجابية، ويمتلكون حساً سياسياً عميقاً لقضايا الأمة، وكان التركيز علينا نحن العمانيين.. لماذا أيدتم اتفاقية "كامب ديفيد" وما سبب وجود قوات مصرية في عُمان؟.. وكنا نرد على تساؤلاتهم، ونناقشهم في هذه القضايا، بروح الاختلاف الطبيعي، كما كنَّا نتابع الحراك الإعلامي والثقافي والسياسي الذي يجري في المملكة المغربية.
واللافت لكل زائر لهذا البلد العريق- مع عدم مقارنته- بدول المغرب العربي عموماً في تلك الفترة، وبعض دول المشرق، ظاهرة حرية الصحافة التي تُمثل كل الأحزاب السياسية المختلفة، وإن كان الأكثر بروزاً ونشاطاً في عقد السبعينات من القرن الماضي، كان اليسار المغربي، بما فيهم حزب التقدم والاشتراكية، الذي يُمثل الحزب الشيوعي المغربي، وكانت له صحيفته التي تمثل توجهه السياسي والفكري، إلى جانب حزبين كبيرين، وهما حزب الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي قبل بعد انفصالهما، والأخير يُمثل التوجه القومي/ واليساري، إلى جانب بعض الأحزاب الصغيرة.
ونحنُ في ذلك السن كنَّا نستغرب: كيف يتم السماح للتعددية السياسية لشتى التيارات الفكرية المُغايرة للسائد والثابت فكرياً؟ خاصة في دولة ملكية عريقة؟ ولها إرث ديني قديم، ضمن هذه السلالة الحاكمة منذ قرون؟ هذه الرؤية السلبية للتعددية السياسية بالنسبة لنا، كانت نتيجة للنظرة الإعلامية التي تبثها النظم الشمولية في الستينات والسبعينات، حيث يتم التحدث عن مخاطر التعددية السياسية وسلبياتها، كونها تقسم المجتمع! وكانت هذه المقولات تبرز ما تسميه بمخاطر التعدد والتنوع على سياج الأمة الواحدة إلخ، ويتم تجاهل المزايا والإيجابيات التي تتيحها هذه التعددية السياسية، ضمن الدستور، بما يوفره من ضمانات حرية التعبير، والانفتاح الإعلامي والسياسي، وغيرها من القوانين التي وضعت، وحددت الحقوق والواجبات، بما يُحقق التوازن الإيجابي، ويبعد الاحتقان السياسي، وعلى الرغم أنَّ المغرب تعرض للعديد من التوترات في عقد في السبعينيات من القرن الماضي، لكن بقيت التعددية قائمة وفاعلة، وهي التي عززت المناخ الرحب، لامتصاص الاحتقان، وأي إشكالية تحدث، وحافظت على استقرارها في كل التحولات.
وعند حدوث الربيع العربي، وظهور الاحتجاجات في العديد من البلدان العربية، في 2011، ومنها المغرب، تعامل الملك محمد السادس بحكمة بالغة ورؤية ثاقبة، مع حركة الشباب ومطالبهم في الشارع، فجاء خطابه في 9 مارس2011، منسجماً مع متطلبات المرحلة وما يجيش في أفكار هؤلاء السباب، بما يُسهم في الحفاظ على الاستقرار، وأهمها قضية الحريات العامة، فأعطى الملك، العديد من الصلاحيات، بعد تشكيل لجنة لتعديل الدستور من خلال لجنة للخبراء، وجاءت متوافقة مع تطلعات الشعب، بعيداً عن التلاعبات في ورقة التصويت، وفي الوقت نفسه حافظ على تاريخ المغرب في التعددية السياسية، وهذا للحق ليس جديداً أو آنياً للظرف الذي وجد فجأة، فقد كان دستور 1962، من الدساتير التي حددت الكثير من الحقوق الدستورية بالمغرب وضماناتها في الديمقراطية والتعددية السياسية، وحريات العامة، واستقلال القضاء، بين الحقوق والواجبات.الآن عندما ننظر في الخارطة السياسية في المغرب العربي، نجد المملكة المغربية تعيش استقراراً لافتاً، وحراكاً فكرياً كبيراً، إلى جانب استقطاب رؤوس الأموال لحركة تنموية فاعلة، بفضل هذا السياج الرائع الذي عصم المغرب من الصراعات والتوترات والاحتقانات، وهو الرأسمال الإيجابي الثابت: القبول بالتعدد والتنوع واستدامته.