"كورونا" والمواطن.. الرِّهان العظيم

 

 

د. صالح الفهدي

 

يُقاسُ وعي المُجتمع وشعوره بالمسؤولية في الأزمات؛ فيُرى مدى الوعي الذي وصلَ إليهِ في مُواجهة هذه الأزمات، وكيفية تعامله معها، والدروس التي يستخلصها خلالها، وبعدها.

وإذ كنَّا نعتقدُ أننا قد وصلنا الذروة خلال أُسبوعين –منذ أشهر مضت- فإنَّ تقلُّبات فيروس (كوفيد19)، وطبيعته التي لا زالت تُحيِّرُ العلماءَ في تركيبتها، وطريقة تشكُّلها قد أطالت أمد هذا الفيروس، ووسعت انتشاره. على أنَّ الرِّهان الذي راهنت عليه الحكومات هو وعي شعوبها وحسهم العالي في التقيُّد بالإرشادات للوقايةِ من إصابةِ الفيروس. إننا ونحن نرى الحكومة وهي تستنفرُ قواها، وتكثِّف طاقاتها، وتكرِّس جهودها في مُختلف الجهات أكان ذلك لوقاية المُجتمع من الإصابة بالفيروس، أو لإجراء الفحوصات الموسعة، أو لعلاج المصابين، أو لمساعدة القطاعات الاقتصادية المتضررة، ونرى أيضاً الانضباط الذي تحلَّى به المُجتمع في أغلبِ فئاته بما تُصدره الجهات المُختصَّة من تعليمات وتوجيهات، لكننا نرى ونسمع فئاتٍ غير مسؤولة من مواطنين أو مقيمين لا تعبِّرُ عن أدنى شعور بالمسؤولية، وأقلَّ إحساس بخطورةِ ما يحدثُ من حولهم، وكأنَّما الأمرُ لا يعنيهم بأيِّ حالٍ من الأحوال وإنما هو محضُ افتراء وليس حقيقة واقعة..!!

إنَّ بعض الأمور قد اقتضتها الضرورة القصوى كالتسوُّق الضروري لمؤونة الغذاء، وأداء المصالح المُلحِّة، وعودة نسبةٍ مُعيَّنةٍ من الموظفين إلى أعمالهم إذ لا يُمكن أن تظلَّ أية دولةٍ مشلولةً دون اقتصاد، وحراك تنموي، وكل ذلك يتم مع الأخذ بالاحترازات القصوى بما اقتضتها التوجيهات، والنصائح الطبية.

على أنَّ بعض الأمور لا يكاد يُصدِّقها عاقل، ولا يقبلها راشد، كإقامة أعيادِ الميلادِ، وحفلات الأعراس، والاندفاع في الأسواق، والمراكز لغير ضرورة، وممارسة الرياضة في الشواطئ رغم الازدحام، بل وإقامة سباقات الهجن..!! ولنا الحكومة مشدودةُ الأعصاب على سلامةِ الشعب، والطواقم الطبية تدفعُ نفسها دفعاً إلى المخاطر لإنقاذ البشر، والأجهزة العسكرية تجاهد من أجل الحيلولة دون تفشي الأمراض بين النَّاس والبعضُ يضربُ بكل ذلك عرض الجدار غير آبهٍ، ولا مكترثٍ بكل ذلك..! ماذا يُمكن أن نسمِّي هذه الاستهتار، والاستخفاف الذي أودى بأُسرٍ كبيرةٍ إلى الإصابة بفيروس جرَّاء تجمِّعٍ عائلي، أو إقامةِ مناسبةِ فرح..؟! أيُّ فرحٍ هذا الذي يكون في أجواءَ يصول ويجول فيها شبحُ الفيروس؟! أي شعورٌ بدفِ اللقاءِ الأُسري في وقتٍ تخفقُ فيه القلوبُ خشيةً من أن يكون واحداً من أفرادها مصاباً بالفيروس؟ أيُّ سعادةٍ يجنيها المجتمعونَ على وليمةٍ، فإذا انفضَّ السامرُ بدأت الأخبارُ تنتقلُ بينهم أن فلاناً منهم كان حاملاً للفيروس؟.  

إنَّها والله لمأساة أن تجد الدولة في الميادين وهي تحشدُ قواها، وتستهلكُ مواردها، في حين أن بعضاً من مواطنيها من سفَّه بكل ذلك، وألقاهُ وراء ظهره، وكأنَّ الأمر عنده مجرَّد أكذوبةٍ لا أكثر ولا أقل، أو مجرَّد إصابةِ خفيفةٍ لا يلبث أن يشفى منها إن أصابته!. لم تردعهُ مناظر القبور الذي وارت جثامين الذين قضوا بسبب (القاتل الصامت)، ولا تكبحهُ الأخبار الصادمة التي تأتي من كل حدبٍ وصوب..! فإذا أُصيبَ بالمرض بدأ ينصح غيره –إن وجد سبيلاً للنصح- بأن لا يستهتروا مثله، ولكن بعد فوات الآوان..!

كم كان هؤلاءِ المستهترون سبباً في وفاة أعزِّ الناس وأقربهم إلى قلوبهم لأنهم كانوا عبيطين إزاءَ الشعور بالمسؤولية التي تحتّم عليهم الاحتراز بقدرِ ما يستطيعون من أجلِ وقاية أنفسهم، وغيرهم من فتك الفيروس، وفي ذلك من القصص ما لا يخفى على معتبر..!

فبأيِّ منطقٍ يخاطَب الناس إن كانوا لا يأبهون للخطر، ولا يكترثون للمصائب؟ بأيِّ أسلوبٍ يناشَدُ الناس إن كانوا يسعون إلى فرش سجاداتهم الحمراء على أشواكِ الفيروسات وفي أجواءَ غير مأمونة؟ بأيِّ نصحٍ يُرشَدُ الناس إن كانت عقولهم لا ترفعهم منزلة إلى الشعور بقيمة المسؤولية؟ ألا يستدعي ذلك تغليظ العقوبات، ومُضاعفة الجزاءات؟!

إنَّ المجتمع إن لم يكن قوياً بما يكفي لردعِ بعضه البعض في تجاوزاته، وشدَّ أزر أفراد من أجلِ إعلاءِ حسِّ الشعور بالمسؤولية، ونصحِ بعضه البعض، فإنِّه سيخسر الرهان، وسيكون لذلك الخسران عواقب وخيمة على المدى البعيد. أمَّا إن تحلَّى جميع أفراد المُجتمع بالحسِّ الراقي من المسؤولية نحو ما يجب الالتزام به من احترازات صحية فإنه سيربح الرّهان وسيكون أيضاً لذلك نتائجه الإيجابية على المدى البعيد.

لهذا لا يصحُّ لأيِّ مواطن تجتهدُ حكومته من أجل تأمين وسائل سلامته، ويتعمَّد هو إضرارَ نفسه ومجتمعه! لا يصحُّ لأيِّ مواطن يرى الغالبية من أبناءِ وطنه يجاهدون في التزامهم بما تقتضيه التوجيهات الآمنة، ويُعرضُ هو عن كل ذلك سفاهةً، وسخافة! لا يصحُّ لأي مواطن تكافحُ شرائحَ من أبناءِ وطنه من أجلِ إنقاذ الأرواح في غرف العناية المركَّزة، وتطبيبهم في المستشفيات، وتنظيمهم في الشوارع، وحراستهم في كل بقعةٍ وهو يقابل ذلك بالحفلات والمناسبات العائلية والاجتماعية..!

إنه وقتُ الامتحان فالأزمات تظهر مدى ما تتمتع به الحكومات والشعوب من حنكةٍ وإدراكٍ ومسؤولية، وبقدرِ ما يرتفع مستوى الوعي تعظم فرص نجاح الرِّهان، وهذا هو ما ننشده، ونرجوه، وننادي به، هذا ما نتوخاه في مجتمعنا الكريم الذي يعرفُ معنى الامتنان والتقدير لكل الجهود المبذولة.. هذا ما نأمله من مجتمعنا العظيم الذي يُدرك تمام الإدراك بأنَّ الأمر معقود على وعيه، وشعوره بقيمة كل تصرف من تصرفاته.. من أجل أن نكسب الرهان العظيم؛ رهان الوعي بالمسؤولية فاعتبروا يا أولي الألباب.