ناجي بن جمعة البلوشي
nbalushi@alnaaji.com
هناك فارقٌ واضحٌ بين هاتين الكلمتين في معانيهما؛ فالأولى متعلقة بالباحثين عن عمل وخلق فرص عملهم والاستقرار الوظيفي لهم وآلية وضعهم مكان الأجانب، تُقابلها الأخيرة الشاملة في معناها على منح القوة والقدرة في اتخاذ الاختيارات والعمل بها للوصول إلى الهدف؛ وإذ إننا هنا نخصها ببيئة سوق العمل فإنها تشمل كلا من الراغبين في العمل والراغبين في الأعمال، فتكون بمعناها الذي نريده هنا منح القوة والقدرة للمبحوث عنهم للعمل في اختيار المناسب لهم من فرص العمل المعروضة وما فيها من امتيازات وحوافز، كما أن معناها من الجانب الآخر منح القوة والقدرة للمستثمر في اختيار المناسب له من موظفين لرفع مستوى المنشأة وتنشيط أعمالها والرقي بها لما يتناسب مع الأسواق والتنافسية العالمية للأعمال، وبهذين التعريفين نصل إلى الاستخلاص التالي وهو: "خلق البيئة الجاذبة لكلٍّ من فرص العمل والرغبة فيها مع تشجيع الاستثمار وزيادة الأعمال فيه".
الرؤية المستقبلية تطلب رؤيتنا لها رؤية واضحة وشاملة لتبقى مع بقاء كل الظروف المستقبلية، وهنا نحن نفكر تفكيرا خالصا يستفاد منه في تكوين المجتمع وما به من حركة انتقالية تصاحبه بين كل فترة زمنية وأخرى؛ لهذا سيكون السرد في هذا الجانب سردا من علم الاجتماع تصاحبه رسالة في علم الاقتصاد السياسي المتبدل بين كل حين وحين، وهذا كله لمواكبة ما هو مستجد على نطاق المعرفة بالتركيبة السكانية المجتمعية أو الطفرة الارتقائية التي وصل إليها الشعوب، والمتغيرات التي لاقتها دون حصولها على ما يواكبها من مناسب لتلك التركيبة المجتمعية.
فعند قراءتنا لكلمة التعمين، نجد أنَّها مصطلح لمفهوم معناه وضع العماني مكان الوافد في وظيفة أو مهنة أو حرفة كان يعمل فيها ذلك الوافد من قبل، وهو مصطلح غريب على اللغة العربية بمعناه هذا الذي سارت على نهجه دول الخليج العربية؛ فمنها من أسماه سعودة، ومنهم من قال عنه توطين، وما ندري ما ستسميه باقي دول مجلس التعاون الخليجية، إلا أنَّ أصل معناه هذا مرتبط بمسيرة العمل على إيجاد الفرص الوظيفية لمواطني دول المجلس في قطاعات مختلفة عن القطاع الحكومي، وتعود بدايات العمل به إلى عدم وضوح الإستراتيجيات في هذه البلدان، بعد أن تأثرت بإنتاج النفط الغزير؛ فعندها أنهتْ آلاف المهن والحرف القائم عليها المجتمع لتستبدلها بوظائف حكومية مدنية وعسكرية، أما الآن فهي ترد للمجتمع مهن وحرف وهبتها للوافدين الأجانب، هذه المسيرة لم تكن ببعيدة الزمن لما في هذه الدول من أسباب تمنعها من هذا التوجه؛ من بينها أنها كانت ولا تزال تحتاج إلى الموظفين إن كانوا مواطنين أو من الأجانب لتضعهم في تغطية حاجات القطاع الحكومي والقطاع الخاص الذي يكبُر ويزداد تعقيدا كل يوم تزيد فيه الصناعات والمنتجات، فهي تستفيد من الأفراد استفادة لا غنى عنها إن كانت هذه الاستفادة بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأنه مترتب على ما بها من نقص حقيقي في السكان لم تصل بعد إلى ذروة الاكتفاء الحقيقي في شغل مواطنيها كل أماكن التوظيف لتلك الشواغر حتى يومنا هذا؛ لذلك هي لا تزال في حاجة للآخرين.
ونحن هنا سنسير بمسار مختلف بعض الشيء عمَّا يُقاس على هذه الدول من مقاييس؛ حيث إننا هنا نقيسه تحديدا بمقياس اجتماعي صرف يُعنى بتشكل الفرد فيها مقارنة بعمر الحضارة فيها؛ فهذه الدول وليدة الحضارة والنمو الحضاري الحديث، وإن وصلت تقديراتها العمرية الحضارية إلى ما يصل إلى 75 سنة أكثر أو أقل؛ لذلك هي لا تزال في طور التشكل الحضاري الذي تنتمي إليه كل مكونات المجتمع من أفراد؛ فالفرد فيها لا يزال يتشكل مع ما يقابله من أسلوب عيش حضاري، هذه الدول أيضا بعيدة جدا عن معنى النمو الحضاري الحقيقي، ويرجع هذا لعدم وصولها بعد إلى نهاية ذلك التشكل بمعناه الذي فرضه التطور الحضاري الشامل للإنسانية في أمم أخرى، ومن أكبر الأسباب التي جعلتها بعيدة جدا عن ذلك التطور الحضاري الشامل: الطفرة التي لاقت ذلك النمو الحضاري السريع في تلك الأمم، هذه الطفرة السريعة كانت متسارعة بتسارع تطوير الوسائل المنتجة المساعدة للإنسان في احتياجاته اليومية، كما أنَّ لها المساهمة الفعلية في توصيل كل ما في تلك الأمم من حضارة إلى دول المنطقة للاستفادة منها بطرق يحددها كل مجتمع وبيئة إنسانية على ما يراه مناسبا.
ولأنها وصلت إلى بلادنا، فإنها ربما عرقلت سرعة التشكل الحضاري للإنسان العماني أو الخليجي بوجه العموم، لكنه في كل الأحوال في مراحل التشكل، وبعد أن يصل إلى نهاية التشكل ستبدا معه مرحلة جديدة من التمام الحضاري أو الاكتمال الحضاري؛ ومنها إلى النمو الحضاري، وهذا كله لا يمكن لنا أن نحدده بزمن أو بقوة لما يجاريه من عوامل مجهولة الوضوح، لكننا نتوقف الآن لنعترف فقط بأن هذه الدول الخليجية لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه الأمم العالمية من اكتمال حضاري شامل، لكنها وصلت إلى شيء يُعنى بتحركها إليه أو شيء ما يُعنى بالتوجه إلى ذلك، فما فاضت به الأمم من نمو حضاري وصل إليها وإلى أبنائها دون طلبها له أو إلمام المعرفة به أو الاقتراب من الانتماء إليه، بمعنى واضح أنَّ ما حصلت عليه المجتمعات الخليجية هو فائض نمو حضارات الأمم الأخرى.