قراءة في الثورات المضادة.. "17 فبراير" أنموذجًا!

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

الثورة المُضادة، مصطلح سياسي يعني قيام ثورة ضد ثورة قائمة مساوية لها في القوة ومضادة لها في الاتجاه وفق القانون الفيزيائي، والثورات بصفة عامة تحمل مشاريع تغيير وإصلاح نحو الأفضل لأوطانها وشعوبها، ولا يمكن لأيِّ ثورة النجاح دون وجود "وصفة فاسدة" سياسية/اجتماعية في الدولة تبني عليها الثورة مشروعها وتطرح من خلالها رؤيتها للدولة والمجتمع، فبوجود هذه "الوصفة" تكتسب الثورة شرعيتها ويتوفر لها الحاضن الاجتماعي للقبول والنجاح لبرامجها.

في عام 2011م، شهدت أقطار عربية انتفاضات "خبز" تحمل مطالب معيشية في ظاهرها وسرعان ما تحولت بفعل فاعل إلى مطالب سياسية وأطلق عليها الإعلام "الوظيفي" مسمى الثورات، وبطبيعة الحال لا يُمكن لعاقل واحد الاختلاف على وجود وصفات جاهزة لتلك "الثورات" ومشروعية تلك المطالب في بعض تلك الأقطار بسبب استشراء الفساد والتهميش بها وشيوع السمسرة في اقتصاداتها حتى أصبحت مقدرات الأوطان الطبيعية والبشرية تُباع بأبخس الأثمان وبالتقسيط المُريح كذلك ولصالح شلل معروفة شكلت بنفوذها حكومات موازية بكل معنى الكلمة.

لهذا رأينا تلك المطالب في كل من تونس ومصر واليمن محصورة في مطالب الإصلاح المعيشي وجزء من الإصلاح السياسي لارتباطهما العضوي مع الحفاظ على الدولة الوطنية ورموزها ومكوناتها ومكتسباتها، بينما شهدت حالات كسوريا وليبيا رفع أعلام انتداب أولا ومظاهر عنفية مسلحة!! وهذا ما يمكن تفسيره بالانقلاب على الدولة الوطنية وليس إصلاحها وثورة مضادة ضد منظومة الحكم وهوية الدولة السياسية معًا.

أن تنطلق ماسُميت بالثورة السورية من درعا رافعة علم الانتداب الفرنسي وهاتفة بشعار "العلوية ع التابوت والنصارى ع بيروت" فهذا تعبير جلي عن هوية الثورة المضادة المخططة لسوريا ومستقبل الدولة "الوطنية" المُراد تمكينها.

وفي ليبيا لم يختلف الأمر حين رفع المتظاهرون ببنغازي علم المملكة السنوسية وحملوا على صدورهم شعاراتها وبصورة تدعو للغرابة والتساؤل عن حجم الإعداد والتخطيط لتوقيت خروج هذه الجموع وتزويدهم بعشرات الآلاف من الأعلام والشعارات مع رمزية بنغازي مدينة البيان الأول لثورة الفاتح عام 1969م.

في ليبيا لا يُمكن الحديث عن مطالب معيشية للشعب الليبي والذي يعلم القاصي والداني حجم البذخ الذي يعيش فيه الليبي بفضل الدعومات الحكومية الهائلة لسلع وخدمات لا تُحصى لم تكن مدعاة لإسراف الليبيين فحسب بل مدعاة للمهربين وجاذبة لأكثر من 9 ملايين وافد عربي وأفريقي وآسيوي للعمل بليبيا، حيث شكل مجموع عدد السكان بليبيا 15 مليون نسمة، منهم 6 ملايين مُواطن ليبي.

كما لم يجد المخطط للثورة المضادة بليبيا المكونات الاجتماعية التي يمكن بناء انقسامات عمودية أو سطحية في ثورته المزعومة كالتباين العرقي أو الطائفي أو الديني أو المذهبي، فالمجتمع الليبي بغالبيته العظمى مجتمع عربي مسلم سُني مالكي، وحتى المكون الأمازيغي المحدود العدد في المجتمع الليبي والذين يتبعون المدرسة الفقهية الإباضية لا يعاني من النبذ والتهميش أو الإقصاء في عصر ثورة الفاتح بل كان الفقه الإباضي مكوناً تشريعياً معترفاً به إلى جانب الفقه المالكي.

ما سُميت بثورة17 فبراير في ليبيا كانت ثورة مضادة بكل المقاييس على ثورة الفاتح من سبتمبر 1969، وحملت رمزيات الإلغاء لها بدءًا من رفع العلم السنوسي والانطلاق من بنغازي ورمزيتها في وجدان أبناء ثورة الفاتح كمدينة انطلق منها البيان الأول لثورتهم وصولًا إلى استباحة الدولة الوطنية والعمل على تحللها التدريجي.

حالة ليبيا في عهد معمر القذافي كحالة بعض الأقطار العربية التي لم تجد منظومتها السياسية بعد استقلالها نموذجًا وطنيًا تحاكيه وتبني عليه، فقد حكم معمر القذافي ليبيا عام 1969م، كأرض قاحلة خالية من تجارب الحكم والسُلطة الوطنية، حيث سبقه حكم ملكي هش وناقص السيادة والاستقلال يُعاني من تبعية واضحة للإنجليز والأمريكان وبقايا الطليان، الأمر الذي شكل وصفة جاهزة لثورة الفاتح والتي سيطرت على الحكم وبدون إسالة قطرة دم واحدة، لأنها ثورة تحمل وجدان وضمير الشعب الليبي وتطلعاته. حيث عانت ليبيا من حكم ملكي صوري لم يمثل الدولة الوطنية الليبية ومكوناتها ولا ضميرها، ملكية صوفية قبلت بتسمية المناضلين من أحرار ليبيا بقطاع الطُرق، وقبلت بوجود سبعة قواعد أجنبية تُهدد مصر والأمن القومي العربي، وكرست تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم (برقة، طرابلس، فزان)، وجمعت الجامع والخمارة وبيت الدعارة في دولة عربية مُسلمة !! وسبقه عهد احتلال إيطالي لأكثر من ثلاثة عقود، واحتلال عثماني لأكثر من ستة قرون، وهذا الواقع ومقتضياته العميقة هو ما شكل هوية ثورة الفاتح ورؤيتها ومشروعها لليبيا، حيث ألغت الأقاليم الثلاثة وأصبحت ليبيا واحدة ولكل الليبيين، وطردت القواعد الأجنبية من بلادها، ومنعت حانات الخمور وأغلقت بيوت الدعارة بكافة المدن الليبية، وكرمت رموز الجهاد الليبي في شخص المناضل المجاهد عمر المختار. خيارات النُظم السياسية العربية المعاصرة تنحصر في أحد الخيارين وهما إما القبول بأن يكون إقليمًا عربيًا في خدمة الكيان العربي الواسع (الوطن العربي) ومواجهة الغرب وهو خيار ليبيا القذافي وسوريا الأسد وعراق صدام ومصر عبدالناصر ولبنان المقاوم، أو القبول بأن يكون كيانًا مستقلًا عن الكيان العربي في قضاياه وسياساته ومتعاطفًا معه في بعض المواقف بحكم الجغرافيا السياسية فقط لا غير ومواليًا أو مهادنًا للغرب وهو خيار أغلب النُظم السياسية العربية اليوم، وهذه من أعراض وموجبات ثقافة سايكس/ بيكو.

تاريخ ليبيا القديم والحديث وقصصها مع الاحتلالات والنضال والاستباحة والتقسيم والتطاول على هويتها العربية المسلمة والتهميش الاجتماعي والسياسي لبعض الفئات والمناطق الليبية شكلت جميعها فكر ووجدان معمر القذافي ورفاقه في ثورة الفاتح من سبتمبر، والتي شكلت هوية ليبيا منذ فجر الثورة ولغاية بزوغ الثورة المضادة عام 2011م والتي دعمها الأعراب والناتو بالقوة المفرطة والبند السابع من مجلس "الأمن" برمزية قراراته 1970 وهو عام طرد ثورة الفاتح للقواعد الأجنبية والقرار رقم 1973 وهو عام طرد شركات النفط البريطانية والأمريكية العاملة بليبيا وتأميم النفط الليبي. رمزيات ثورة الناتو بليبيا تحققت اليوم على أرض الواقع بصورة فعلية، فقد انطلقت من معقل ثورة الفاتح مدينة بنغازي أولًا، ثم رفعت العلم السنوسي برمزياته، ودُمرت ليبيا بقرارات تحمل أرقام سنوات انتصارات جلية لثورة الفاتح وصولا إلى عودة القواعد والشركات الأجنبية واستباحتها لثروات ليبيا، وأخيرًا وليس آخرًا على مايبدو عودة المحتل العُثماني عبر بقايا الجيش الانكشاري ومُخلفاته فيما يسمى بحكومة الوفاق بطرابلس وعصابات مصراتة.

عادت ليبيا اليوم لما كانت عليه حالتها قبل ثورة الفاتح بالتمام والكمال مع بعض الاختلافات الصغيرة والتي لا تُذكر، حيث التلويح بالتقسيم والعودة إلى الأقاليم الثلاثة مجددًا، وشيوع المناطقية والقبلية بقوة مقابل ميليشيات خارجة على القانون أوجدها المحتلون الجدد وأضفوا عليها صبغة الدولة والاعتراف القسري بها، إضافة إلى عودة ليبيا كمهدد للأمن القومي العربي وخاصة جوارها الجغرافي، حيث أصبحت ليبيا اليوم بيت مال لعصابات الإخوان ومركز إيواء وتدريب للإرهابيين من مختلف دول العالم.

طرق التعذيب وشيوع ثقافة الاغتصاب والمعتقلات السرية والعلنية للميليشيات المنتشرة اليوم في ليبيا وفي الغرب الليبي بالتحديد، جميعها تشي بتحقيق نتيجة واحدة وهي تعميق الأحقاد والثأرات بين أبناء الشعب الليبي وترحيلها لعقود قادمة لتُشكل انقساما عموديا وشرخا عميقا يُمكن استدعاؤه في أية لحظة تاريخية لإشعال حرب أهلية ليبية ليبية وقودها القبلية أو المناطقية والانتقام للعرض والشرف. كما أن عدم قيام أي شكل من أشكال الدولة أو أي مظهر من مظاهر التنمية في ليبيا منذ سقوط الدولة الوطنية عام 2011م، هو وفق مخطط تجفيف ثقافة ثورة الفاتح والإجهاد المُنظم لبقايا النفس الجماهيري والتآلف الاجتماعي بقصد تقبل الليبيين لاحقًا لأي حل يمن به الجلاد والمحتل عليهم.

قبل اللقاء: العبرة بالنتائج دائمًا، فمن لايُجيد قراءة المؤشرات وما وراء الخبر لتلافي الكوارث قبل وقوعها تهديه النتائج الصادمة إلى حقيقة الأمر، وهذا ماحدث لعرب زماننا حين تفرجوا على تمزيق ليبيا وسوريا ولم يعوا أنّ ما يدور عليهما ثورات مضادة ستتعاظم ككرة الثلج على العرب جميعهم وبلا استثناء.

وبالشكر تدوم النعم..