التعليم الرقمي

حاتم الطائي

◄ "كورونا" يفرض علينا الإسراع نحو "رقمنة التعليم" دون تردد

◄ التعليم الرقمي لا يغني عن حق الطلاب في التمتع ببيئة مدرسية أو جامعية حقيقية

◄ الوسائل والمناهج والبيئة.. 3 محاور رئيسية للتحول نحو التعليم الرقمي

انقضت 6 أشهر من عُمر الفيروس التاجي "كورونا" الذي ضرب العالم بلا هوادة، وأسقط الاقتصادات في هوة سحيقة من الركود وتراجع النُّمو، فضلاً عن تسجيله ما يزيد عن 11 مليون إصابة، وأكثر من 526 ألف وفاة، وأجلس مئات الملايين من النَّاس في بيوتهم، خشية الإصابة به، فضلاً عن حرمان الملايين من الطلاب من الذهاب إلى مدارسهم أو جامعاتهم.

ويبدو أنَّ "كورونا" سيظل ضيفاً ثقيلاً على العالم لمدى لا يعلمه أحد إلا الله، فيما لا تزال كبرى المُؤسسات البحثية حول العالم ومراكز تطوير اللقاحات وشركات الأدوية، تعكف على التوصل إلى لقاح أو مصل ناجع، أو على أقل تقدير علاج فعَّال لأعراض المرض، الذي لا يزال يطل علينا بوجهه المليئ بالأشواك!

وتلك المُحصِّلة من الأحداث التي شهدها العالم خلال الأشهر الستة الماضية، تفرض علينا جميعاً أن نغير من آلية تفكيرنا، وأن نتَّجه نحو تطبيق أفكار أكثر ابتكاراً وإبداعاً عما مضينا عليه سابقاً. ونظراً للوضع الوبائي في بلادنا وفي مُختلف دول العالم، فإنَّ تطبيق التعليم الرقمي لم يعُد مُجرد رفاهية أو مقترحًا يقبل النقاش في قاعات المشاورة والبحث! لكنه بات توجهًا حتمياً لحماية أبنائنا من خطر الفجوة المعرفية التي قد تترتب نتيجة لتراجع مستويات التعليم وفقدان الطلاب لمهارات التعلم، وما يحدث في العالم من حولنا وما يشهده من تطور غير مسبوق في هذا المضمار، يفرض علينا في السلطنة أن ندفع نحو رقمنة التعليم وإتاحته عبر وسائل التقنية الحديثة لجميع الطلاب في أي وقت وأي مكان.

وقبل أن أوضِّح ما يُمكن أن تقوم به الجهات المعنية في هذا الأمر، يتعين أن أُبرز جملة من النقاط، أولاً التأكيد على أنَّ التعليم الرقمي لا يغني مطلقاً عن حق الطالب في الحضور إلى البيئة المدرسية أو الجامعية، والاستفادة نفسياً وعلمياً ومعرفياً مما تتيحه هذه البيئات من خبرات وما تضيفه إليه من مهارات وصفات، وكلها عوامل أساسية في تشكيل هويته وشخصيته لاحقًا. ثانياً: التعليم الرقمي لا يلغي دور المُعلم أو يُقلل من فعاليته، إذ إنَّ المعلم هو حجر الزاوية في مسيرة التعليم، وتواصله المباشر والحقيقي مع كل طالب أمر أساسي لا يُمكن التنازل عنه أو التفريط فيه. ثالثا: رقمنة التعليم تستهدف بالأساس التقنيات والوسائل المساعدة على تطور العملية التعليمية، دون التقيد بغاية معنية، فالرقمنة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فما سنصل إليه من تقنيات العام المُقبل، سيكون جزءا من الماضي بعد 3 أعوام.

إنَّ قيادة عملية التحول في مسيرة التعليم في السلطنة، تتطلب فهم آليات التطور في ظل الثورة الصناعية الرابعة، والإيمان بأنَّ التخلف عن الركب الحضاري سيلحق بنا أضرارًا لا حصر لها، وتلك الثورة تقدم لنا العديد من الوسائل المعينة على تطوير العملية التعليمية، لاسيما تحت وطأة كورونا.

ورقمنة التعليم ترتكز على 3 محاور رئيسية؛ الأول رقمنة الوسائل، والثاني: رقمنة المناهج، والثالث: رقمنة البيئة التعليمية، وكل محور يتكامل مع المحاور الأخرى، بل ويتشارك معها في التطبيق، فلا يُمكن تنفيذ أحدهم دون الآخر، فهي محاور مُتداخلة ومُتكاملة ومُنسجمة في إطار واحد.

ورقمنة الوسائل التعليمية تعني إتاحة الفرصة أمام الطالب والمعلم والمدرسة وولي الأمر للتواصل فيما بينهم رقمياً، بأدوات ووسائل حديثة، وهذا التواصل يقوم على الابتكار والتحديث المُستمر. إذ لا يُمكن أن يظل المعلم يتواصل مع طلابه من خلال تطبيق عالمي شهير يستخدمه الجميع، بل يجب أن يكون التطبيق مخصصاً فقط للعملية التعليمية، وفي ذلك يمكن لوزارة التربية والتعليم أن تطور تطبيقاً ذكياً لإتاحة فرصة التواصل بين الأطراف المعنية، على أن يوفر التطبيق قائمة بالدروس ومنهج كل مادة في صورة رقمية يسهل تصفحه، فضلاً عن آلية لإدارة المدرسة تسمح للمشرفين والمعلمين الأوائل بمُتابعة سير العملية التعليمية، وفي المقابل يستطيع ولي الأمر متابعة الطالب في كل وقت ومن أي مكان.

أما فيما يتعلق برقمنة المناهج، فليس المقصود فقط تحويل الكتب إلى صيغ إلكترونية تسمح بتصفحها عبر الأجهزة اللوحية أو الحواسيب، لكن أيضًا أن يتم تقديم مناهج عصرية. وابتكار مسارات تعليمية تخدم جهود الارتقاء بالابتكار، وهنا نقترح بدء مسار لشهادة الدبلوم في مجال إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والروبوتات، فمثل هذا المسار سيتيح أمام الناشئة من طلاب الصف التاسع الانتقال إلى الصف العاشر (أو مرحلة الثانوي) وهم متخصصون في واحد من تلك المجالات الثلاثة، ومن ثم الالتحاق بكلية الهندسة أو أيٍّ من الكليات التقنية وهو يمتلك ذخيرة معرفية يستطيع من خلالها تطوير دراسته على أسس أكاديمية نوعية.

أما المحور الأخير، وهو رقمنة البيئة التعليمية، فتلك أخص بها بيئة التعلم في المدرسة أو الجامعة، السبورة الذكية والوسائل التفاعلية بين الطالب والمُعلم داخل القاعة الصفية، بات من الضروري تطبيقها في كل مدارسنا وجامعاتنا، وأيضاً توفير جهاز لوحي لكل طالب من الصف الأول إلى الثاني عشر، فضلاً عن إتاحة الفرصة لجميع الطلاب للولوج إلى الإنترنت بمقابل بسيط، أو بالمجان، فالإنترنت لم تعد نوعاً من الترفيه لممارسة لعبة أو مشاهدة فيلم كوميدي، بل صارت نافذة الطالب لكي يسبح في فضاء المعرفة اللا متناهي.

إنَّ التعليم الرقمي سيقودنا نحو آفاق أرحب من التقدم الإنساني والمعرفي، ويخدم أهدافنا الوطنية، وخاصة الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، ويدعم توجهات السلطنة نحو بناء بيئة تعليمية مُحفزة على الإبداع والابتكار والتطور، بما يُعزز من تقدمنا ويحقق لنا الرخاء والازدهار في شتى المجالات.