شيء من الحب

منال السيد حسن

"أحبّكَ لا لذاتك، بل لما أنا عليه عندما أكون بقربك" (ماركيز)

كُنا كعادتنا نجلس سويًّا تحت صفصافتنا الصغيرة في مكاننا السري المنزَّه عن العالمين؛ كانت هذه المرة تختلف.. رأيتها مبهجة يملؤها الفرح.. وكعادتي لم أسالها أبدا عن حالها الجديدة.. تعودت منها دائما أن تسرد لي حالها دون سؤال؛ وبالفعل تنهدت وجلست أمامي مباشرة وقالت لي: إنها رؤاه التي امتلأت بها سحبي وسمائي.. إنه ذاك الحلم الأخضر الذي لطالما غنيت له في رجاء أن يتحقق يوما ما.

لم أدرِ كيف بليلةٍ واحدة دون أدنى تحسبٍ أو استعداد أن ينمو في دواخلي دفعة واحدة هكذا، ويسكن في روحي ظلا بريئا وحماما لا ينام.

تبدلت أحزان القلب بمحض إرادة الله إلى فرح وسلام، وكنت أتساءل منذ رأته عيناي هل وجد القلب ضالته وهُداه؟!

ووجدت الإجابة في كل لحظة شعرت فيها بعمق تجسيده للفرح داخلي؛ كيف بنظرةٍ منه أن يبني أعشاشا من الأمل في صدري؟ وكيف ببسمةٍ منه أن يرسم طرقا للأماني والأحلام في نبضي؟ وكيف بحرف يخطه لي أن يخلق في بهجة لا تضاهيها بهجة؟ وكيف بلمسةٍ منه أن يحولني لسماءٍ تتزين فيها نجومه بكل بهاء ويزرع قمره في روحي؟ وكيف للحظة أمتثل فيها بين ذراعيه مغمضة العينين عن كل شيءٍ عداه أن يجعلني أطوي الكون جهرا وتصغر الأشياء في عيني وتصغر ووحده يكبر.. وحده يحلو.. وحده أراه؟!

شددت على يديها؛ كانتا ترتجفان من فرط إحساسها.. تنهدت وأكملت؛ وجدت الإجابة في كل لحظة كان يكتب لي فيها ردا على رسائلي؛ رسائلي التي اعتقدت للحظة أنني سأحاول بها أن أسبب له بهجةً لأجده يتفنن هو في كل مرة في كيفية إبقائي على قيد السعادة، في قراءتي لحروفه بروحي وقلبي.. أستشعر وجهه أمامي وطريقته حين تكلمه، كيف تخرج الحروف من بين شفتيه تنثر السعادة في أرجائي؟ وكيف حين أمسك يديه يسري في نبضي نغم يعزفه لحنا غربيا كلاسيكيا على طريقة مخرجي الأفلام العربية القديمة ولا ينام؟

"إنَّ لحظة حب معه تساوي الدنيا".

كعادتي كل يومٍ قبل أن أخلد إلى النوم.. أعاود قراءة "الشات" بيننا، ولا أنفك أقول إن حديث القلب يصل إلى القلب.

لطالما أسأل الله دائما السلام لقلبه أينما حل، ولطالما حل بقلبي؛ فالسلام عليه في حِلِّه والسلام عليه حين اخضوضرت به شغاف ما حل به.

اعتدلتْ فجأة في جلستها وأسندت رأسها على كتفي وقالت: أحبه؛ والله ما شعرت بلذيذ البوح بها إلا عندما حل بقلبي.

ذكرت حكاية قديمة ذكرها لها عما تحبه، قالت: "وقتها ذكر لي أن مفهوم الحب يختلف بمعانيه كلما نضج القلب، وبأنني سأبصر في قلبي ما يشعر به عقلي وبأنني وقتها سأتلمس النور في العتمة".

ومنذ نظراته الأولى وعناقه الأول لامسني وكأنه يفتش في دواخلي عن شيء ما، وكأنني كنت أفتش فيه عن الرحمة؛ التي وجدتها ملأته.

أحبه.. كل ما فيه أحبه.. أحبه حتى حين يشاركني تعبه.

شعره الأبيض الجميل الذي والله لا أشعر أني رأيته جميلا على أحد غيره أو ربما لم أهتم قبلا. قلبه الأبيض الرقيق الذي والله لا أشعر أني لامست بياضا في قلب أحدهم مثله، قلبه والله بريء جدا لمن استطاع أن يبصره. لقد اندهش مني كثيرا لفرط إحساسي في وقت قصير. لكني قلت له: "ألم يقل لك أحد إن جمال الروح يُرى في مسحة الوجه، وأن وجهك مرايا لروحك الشفيفة".

أدركت حينها أني تورطت به وانتهى الأمر.

حين أقرأ حروفه أراه، وآه لو يراني حين أقرؤها.. تحلو الأشياء في عيوني بما فيها من طول المداد مع المداد.

تُخاطبه بكل خواطر الحب وتمدها إليه دفعة واحدة.. تصارحه أن كل شيء دونه باهت جدا.

أقف على حدود نظرته.. نظرته التي حين يرخيها داخل نظرتي تملؤها بلين عطفها وجمال حنوها.. ألا ليت الكون كله هي.. ألا ليت الكون كله هي!!

يا جمال وجده حين ألقاه في الكلام حسا ناعما.. أكتب حرفا من اسمه فأرتجف.. يا وحي أناملي حين تربت على الورقة فتسلم أنامله عليّ كأنه هو هو يسلم علي.

ويح الشعور الذي من فرطه زادني بلاغة وأذاقني من جماله بهاء.. فهززت بجذعه فيه وأنا على حلو يقيني بأنه سيُسقط عليَّ رطبا جنيا.. فارتوى داخلي بعد أن كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت عطشا لهذا الجمال.

يغني كاظم الساهر رائعة نزار ويقول: "زيديني عشقاً زيديني// يا أحلى نوبات جنوني. زيديني غرقاً يا سيدتي// إن البحر يناديني. زيديني موتاً علً الموت إذا يقتلني يحيني".

وأنا أقول إني في جب بحره أحيا حين أغرق في تفاصيل نظرته البهية، وأغرق حين تموج ابتسامته الثنية، وأغرق حين أرى تقلب النهار والليل في دواخلي حين أكتب إليه شيئا ما.

قلت له ذات لحظة حب: "إن كنت يا سيدي سأحيا بهذا الغرق فيكفيني أني سأحيا. وإن كنت يا سيدي سأفنى بهذا الغرق فيا جمال قدري أني به سأفنى".

صمتت بعدها وأنا لم أجرؤ على شيء إلا أن مسحت على شعرها مسحة الرحمة والإنسانية، وأنا أدعو لها من كل قلبي أن يظل هذا الشعور ملازما لها أبدا وفي زيادة.. فمثلها يستحق.. والله يستحق!

تعليق عبر الفيس بوك