لجنة حقوق الإنسان.. وحقوق عسكريينا في الخليج

د. عبدالله باحجاج

عندما تصل قضية العسكريين العُمانيين العاملين في دول مجلس التَّعاون الخليجي إلى مرحلة خطيرة وتتجمد بصورة غريبة لسنوات عديدة، فمن الطبيعي أن نتوجه للجنة الوطنية لحقوق الإنسان التي أنشئت بمرسوم سلطاني عام 2008، لحماية حقوق المواطن ولإدارة ملف حقوق الإنسان وحرياته في السلطنة داخليًا وخارجياً لضمان الحقوق والحريات التي يقرها النظام الأساسي للدولة، وكذلك للتفويت على أي جهة التدخل في هذه الملف الحساس جدًا؛ حيث تحاول عدة جهات مشبوهة تسيسه عبر استغلال الثغرات وتضخيمها أو اختلاق القصص من وحي الخيال.

فالقضية من اختصاص هذه اللجنة، لأنها– أي القضية- تتعلق بحق من أهم حقوق الإنسان، وهو حق هؤلاء المواطنين في الراتب التقاعدي بإجماع القانونين العماني والخليجي منذ عام 2010، عندما أقر قادة دول المجلس الخليجي مد الحماية التأمينية للعسكريين الخليجيين الذين يعملون في أي دولة خليجية، طبعاً بما فيهم العمانيون، فلماذا لا يمنحوا حقهم في الراتب حتى الآن؟

هذا التساؤل نوجهه للجنة حقوق الإنسان بموجب المادة السابعة من المرسوم المنشئ لها رقم 124/ 2008 التي تحدد صلاحيات اللجنة، فالفقرة الأولى منها تنص على الآتي "متابعة حماية حقوق الإنسان وحرياته في السلطنة وفقًا للنظام الأساسي للدولة والمواثيق والاتفاقيات الدولية"، ومن هذا النص التشريعي الواضح والصريح، نُطالب اللجنة بالتدخل في حماية حق الراتب التقاعدي لعسكريينا العاملين في الخليج كواجب ملزم عليها بموجب ذلك النص، وكذلك حتى لا يستغل من الخارج، ويكون مادة للمزايدة والمضاربة السياسية الرخيصة.

وهذا حق أصيل ويغلب عليه كل الجوانب الإنسانية والوطنية، وقد تواصل معنا الكثير منهم في تفاعلية إيجابية على مقال الأسبوع الماضي المعنون باسم "العسكريون العُمانيون العاملون في الخليج" وقد تقاطع معه كذلك، فاعلون يمثلون بعض دول الخليج في مسقط، موضحين ومفندين ومقدمين أدوارهم للمساعدة في حل هذه القضية، لكنها– أي القضية– هي في ملعب جهات حكومية بعينها من جهة، وفي توفير مبلغ 35 مليون ريال من جهة أخرى، فهل هذا مبلغ كبير يعجز عن توفيره؟ ومالية الدولة الآن تسجل فوائض مالية، وبالتالي إمكانية رد الاعتبار لحقهم وبأثر رجعي هي مسألة حقوقية بامتياز.

وكل من يقترب من هؤلاء المتقاعدين- كما وجدنا أنفسنا مجددا- سيقف على حجم معاناتهم المتعددة، فهي معاناة سيكولوجية واجتماعية ومالية.. ويمكن اختصارها بالإنسانية ذات الصفة الوطنية العالية القيمة، وقد أوضح لنا بعضهم أنه منذ عام 2014، وهو بلا راتب، رغم أنَّ من حقه راتب تقاعدي، وآخرون يعبرون عن مخاوفهم من المصير وهم على وشك التقاعد في دولة مجاورة.

وكما وصف أحد الفاعلين البارزين والمطلعين على الملفات الخاصة أثناء تفاعله مع المقال السابق بالقول "هذه القضية تاهت في غياهب الجب، ولم يتطرق إليها أحد بالرغم من أهميتها،" وأردف قائلاً "عسى هذا المقال (السابق) أن يحرك المياه الراكدة ويتم النظر إلى هذه الفئة المظلومة".

تأملوا في المُفردات التي استخدمها هذا المصدر، فكل واحدة منها تعبر عن دلالات عميقة، وتعكس حجم هذه القضية، ويكفي بذلك المصدر، التلويح بالمظلومية التي تهز الجبال، فالصامت القادر على رفع الظلم، هو ظالم، والصامت القادر على الانتصار للمظلوم، هو ظالم، والصامت غير المُتفاعل مع هذه القضية، ولو بقلمه أو بلسانه أو بقلبه، فهو ظالم.. وقد تتسع دائرة الظلم، وتدين الكل إلا من رحمه الله جلَّ في علاه.

يتولد لدينا هذا التصور بتداعيات مظلومية هؤلاء المواطنين على كل فعل صامت، والمظلومية هنا لها ما يُشرعنها، تخيلوا مشهد أولياء أمور يعيلون أسرا بلا راتب تقاعدي مستحق لهم أصلاً، ومقرر لهم قانونا؟ يستوجب التخيل، ويحتم تعميمه، لأنه أمر عام، ويحتم كذلك الرجوع به إلى العسكريين العمانيين الذين أنهوا خدماتهم منذ عام 2010، وهم بلا راتب تقاعدي رغم أحقيتهم به قانوناً كذلك، فهل تمكنا من تصور المشهد المتخيل لحجم مُعاناتهم؟

وحتى نعمق المتخيل بمعاناتهم، ندعو كل قارئ لهذا المقال، إلى تخيل نفسه من دون راتب مدة شهر فقط وليس عدة سنوات، فكيف سيكون إنعكاسات ذلك على سيكولوجيته وأسرته ووضعه داخل مجتمعه؟ الآن تبدو انعكاسات التخيلات واضحة، فالموظف والمتقاعد إذا ما تأخر راتبه عن موعد استحقاقه أكثر من ثلاثة أيام فقط، تضطرب أوضاعه وتزداد عليه الضغوطات من كل الجهات، لأنه يقف عاجزاً عن تأمين لقمة عيش أسرته.

فكيف، ثم كيف بمن انتهت خدماتهم بعد أكثر من 30 سنة عمل، وهم حتى الآن بلا راتب تقاعدي؟ تأخير استحقاقهم للراتب التقاعدي حتى الآن غير مُبرر من قبل مؤسساتنا أولاً، والأشقاء ثانيًا، مع تحميل المسؤولية على الأول، لكن على الثاني واجب الوقوف مع من أخلص في عمله وتفانى فيه من أجل ديمومة أمنهم واستقرارهم، ولم يسجل في تاريخه أي تقصير أو ملاحظات تمس نزاهته أو تخل بعقود عملهم.

والحديث هنا لا يقتصر على فرد أو مجموعة أفراد من عسكريينا في الخليج– رغم أنَّ استحقاق الحق لا يرتبط بالعدد– لكننا نلوح به، حتى يتولد لدى الرأي العام تصور بحجم المظلومية وأعماقها على شريحة من المواطنين، ففي إحدى القوائم التي وصلتني عن مستحقي التقاعد من العُمانيين العسكريين الذين يعملون في الإمارات فقط، تصل لأكثر من 88 مواطنًا، وأخرى 22 مواطناً، فكيف ببقية الأعداد في القوائم الأخرى؟ وكيف بالعدد الذي ينضم سنوياً إليهم؟

هنا نقف على معضلة كبرى لا تحتمل الصمت ولا السكوت، لذلك نتوجه إلى اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بالتدخل العاجل لتأمين حقوق عسكريينا في الخارج، فالقضية قد أصبحت معظمها داخلية، وعلمنا أنها قد كانت لها تدخل سابق، فأين نتائجه؟ وهذه اللجنة الحكومية ممكنة من الفعل، ومستمكنة من النتائج إذا ما كان تدخلها فعالاً ومهنيًا وقوياً، فكل الجهات التي تعنى بهذا الملف مُمثلة في اللجنة، فوزارات الخارجية والداخلية والعدل والخدمة المدنية والقوى العاملة والتنمية الاجتماعية ومجلسا الدولة والشورى واتحاد عمال السلطنة وقانونيون والغرفة والجمعيات الأهلية، كلها ممثلة في هذه اللجنة، فكيف تقبل استمرار هذه القضية طوال هذه السنوات وحتى الآن؟ وكيف لا تنتصر للاختصاص الأول من صلاحياتها وفق المادة السابعة سالفة الذكر؟

من هنا ندعوها مجددا إلى الانتصار لأهم صلاحياتها الإنسانية والحقوقية، وفورا، حتى لا يُشغل فراغ الحماية الداخلية من قبل مؤسسات خارجية، بالتالي ستجد نفسها في عجز عن ممارسة صلاحياتها الثانية، وهي كما ورد حرفيا في نص المرسوم سالف الذكر "رصد ما قد تثيره الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية من ملاحظات في مجال حقوق الإنسان في السلطنة والتنسيق مع الجهات المعنية للتحقق منها والرد عليها". وهذا النص يحملها أولاً مسؤولية العمل على حماية الحقوق داخليا بصورة ناجعة بموجب القانون، وثانياً سد الثغرات ومواجهتها.

وقد أصبحت مسألة تفعيل صلاحيات اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وتدخلاتها في الوقت المناسب من بين القضايا الوطنية التي ينبغي أن تشغل عهدنا السياسي الجديد، بحيث تكون من ضمن أساسيات النهضة العمانية المتجددة، وهي نهضة الكل ينبغي أن يمارس الفعل ضمن منظومته المؤسسية بالصلاحيات المؤسسة لها، وهي صلاحيات لابد أن تنتقل لطور التطبيق المنتج، ضمن تفعيل الأدوار الرقابية والمساءلة والمحاسبة الموازية.

وإذا لم تُفعَّل الصلاحيات، فإنَّ مرحلتنا الوطنية قد تجد تحت ضغوطات الحاجة إلى مؤسسة مستقلة لحقوق الإنسان تدافع عن الحقوق والحريات بموجب النظام الأساسي للدولة والقوانين والمواثيق الوطنية الدولية والإقليمية، وبالتالي، ستكون من بين أهم التحديات المعاصرة التي ستُواجه النهضة المتجددة.

ومن كل ما تقدَّم ينبغي أن يكون تدخل لجنة حقوق الإنسان سريعا وفعالا وفورا وضمن صلاحياتها القانونية سالفة الذكر، وإلا فلمن ينبغي أن يُحرك هذا الملف المجمد؟!