معركة من القرن الماضي

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

 

كان يوماً عصيباً.. فالجميع توجه إلى ساحة المعركة باستثناء كتبة البرقية وعدد بسيط من الجنود يحرسون المعسكر وقد كانت الليلة الفائتة تنجم عن أحداث جسام ستحدث في اليوم التالي فقد حرص جميع من تمَّ استدعاؤهم للجبهة الأمامية على ارتداء ملابس ساترة فهم يتوقعون الاستشهاد من أجل الوطن وتحت راية السُّلطان في أي لحظة، وفي تلك الأثناء سقطت نظرة من أبي على وجهي في ذلك الصباح الباكر حيث غمامة تلف المكان وأنا ألف رأسي الصغير بإحدى عمائمه قال لي... استعن بالله وكن رجلاً ولا تعد إلى البيت إن لم أعد أنا استمر في دراستك... ولم ينطق غير بهذه الكلمات المقتضبة وذهب إلى طائرة الهليكوبتر التي باتت تُحرك أذرعها بقوة وتصدر صوتاً قوياً يُثير غبار التراب البارد ويهيله على رأسي والتحق به بقية الرجال الحاملين لبنادقهم وكامل عتادهم.  

لم أبرح مكاني رغم الصخب والغبار الذي تصدره تلك الطائرة فقد جلست القرفصاء ووضعت كفي على وجهي وتركت فتحة صغيرة أراهم من خلالها وهم يصعدون الواحد تلو الآخر ورويدا رويدا تباعد صوتها وحلقت في الأفق مفتوحة الأبواب كان أبي يجلس على طرف بابها شعره يطير عالياً وعيناه شاخصتان نحوي آراهما بوضوح كما لو كان أمامي تماماً فحلقت مرتين حول المُعسكر ثم اختفت بين السحاب حللت عمامتي وعدت أدراجي إلى تحت شجرة كان يجلس تحتها مفضلاً البعد عن النَّاس ليخلو بربه وفي ذلك اليوم صليت أول ركعتي ضحى في حياتي ودعوت لهم بالسلامة.

حدث هرج ومرج في غرفة البرقية حين وصلت أخبار عن استشهاد القائد الميداني المحلي وعدد من المحاربين وانقطاع الاتصال بالبرقية المُتحركة في ميدان المعركة التي كان يحملها جندي من كتيبة الجبل قالوا إن القائد استشهد وأصيبت غرفة القيادة التي تحوي القائد البريطاني المُنتدب وقائد سرية الجبل وحامل البرقية الميدانية نظرت حولي وجدت كاتب البرقية يتلقى سيلاً من الاتصالات من القيادة المركزية في صلالة، بينما كان عنده رجلان متوتران تظهر عليهما علامات الحيرة والحزن على الأخبار الأولية القادمة من أرض المعركة لا أحد يعلم حتى اللحظة ما جرى، فساد صمت مصحوب بتشويش حاد من البرقية وأصوات متداخلة ترد من بعيد غير مفهومة وبعد دقائق اتصل قائد كبير وطلب من غرفة الاتصالات في فرقة أبوبكر الصديق استمرار الاتصال بالجهاز المتحرك في أرض المعركة فكرر نائب العريف علي نداءاته المُتتالية ...من أبوبكر الصديق إلى صقر 6 كيف تسمعني أجب... ولم يجب الصقر السادس على النداءات.

وصلت أخبار محدثة عبر اللاسلكي من القيادة المركزية بأن القائد مصاب وأن أحد رفاقه استشهد والباقون إصاباتهم طفيفة لكن المعركة لا زالت محتدمة في وديان سحيقة ومناطق وعرة يصعب وصول الإمدادات إليها والثوار متواجدون بكثافة هناك في هذه اللحظات تخيلت الرجال الذين أحبهم ومرَّ شريط سريع أمامي وهم يضحكون حول النار إنه آخر مشهد سجلته ذاكرتي لهم في الليلة الفائتة فرغم جسامة ما هم مقدمون عليه إلا أنهم كانوا مؤمنون بعدالة قضيتهم.

فجأة صرخ الثلاثة الذين كانوا حولي وهم يقولون... هذا صوت حسن بن محاد... فقدم إلينا عبر البرقية المتحركة في ساحة المعركة صوت أجش يعرفه الجميع وقال .. أبوبكر الصديق هنا صقر 6 كيف تسمعني أجب... رد عليه كاتب البرقية وذكر له أن الاتصالات انقطعت بكم... قال بكل ثقة وثبات المعركة محتدمة أصبنا في القيادة لكن رجال قوات السلطان المُسلحة يخوضون معركة فاصلة والنصر حليفنا بإذن الله تعالى..

قصة مستوحاة من يوميات رجال قوات الفرق الوطنية الباسلة في سبعينيات القرن الماضي.