الكتب أكثر عدوى من كورونا

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

في هذا الجو الصيفي في أسكتلندا؛ تمنح الشمس أملاً في التغلب على المجهول الذي يبث الخوف في الأنفس الإنسانية من الاقتراب من بعضهم البعض منذ أشهر؛ تباعد النَّاس هنا ولكنهم اقتربوا أكثر من الكتب؛ التي منحتهم اقتراباً من عوالم وحيوات لا حدود لها، هنا يجلس النَّاس على مداخل بيوتهم الضيقة؛ والمساحات الخضراء التي تفصل بين البيوت، وفي الحدائق مُتصلين بالكتب التي لا تفارق الأيدي؛ يخيل إلى من يقف على هذا المشهد أنَّ الكتب والقراءة أكثر عدوى من كورونا، ولا غرابة في ذلك؛ فالشغف اللامحدود بالقراءة لدى النَّاس  وهو الذي قاد إلى بناء مجتمعات تقدس الكتاب، وتهيئ السبل له لأن يتحرك كما يتحرك الهواء في الأزقة والطرقات، مما جعل طبقة الكتاب ينافسون في ثرائهم لاعبي كرة القدم، فالفئتان تحظيان بشعبية لا حدود لها، وللكتاب جدول أعمال أسبوعي وسنوي من زيارة للمدارس وصالونات ومُقابلات يدر عليهم أرباحاً طائلة، فهاهو مؤلف ورسام الأطفال جيمس مايهيو ألغى في منتصف مارس بسبب بدأ الحجر المنزلي 13 حدثاً خلال أسبوع قيمتها ستة آلاف جنيه إسترليني، فالجميع يقرأ ويُروج للكتاب من الطفل الصغير إلى رئيس الوزراء، فهذه نيكولا ستيرجون الوزير الأول في أسكتلندا لم تكف منذ أن بدأ الحظر عن الحديث إلى متابعيها على التوتر عن الكتب التي تقرأها خلال فترة الحظر، ليس للترويج للقراءة كنشاط مُفيد لقضاء وقت الفراغ الطويل والعصيب خلال فترة الحظر، إنِّما لتبادل المعرفة والرؤى والأفكار مع الآخرين، فالكتب هنا تعدت مرحلة الحاجة إلى الترويح لأن النَّاس لديهم قناعة بأنَّ القراءة أداة بناء للوعي والإحساس والتآزر الإنساني، ولديهم قناعة بأنَّ البيت الذي لا تدخله الكتب يسكنه الجهل والغرور .

القراءة تحولت إلى ماراثون يومي هنا؛ تستعيد به الشعوب القارئة الأعمال الخالدة لكُتابها العظام؛ فالروس كان ماراثونهم، حول الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين التي أبدعها في مدينة بلدينو أثناء بقائه في الحجر الصحي نتيجة تفشي وباء الكوليرا في روسيا، حيث لم تتوفر لديه في تلك البلدة النائية التي قضى فيها ثلاثة أشهر طويلة معزولاً عن العالم أية كتب أو أصدقاء، فكان التواصل مع الورق حيث ألَّف أجمل القصائد والقصص والمسرحيات، ومن ضمن ما قاله "ثمَّة نشوة في ساحة المعركة، وحيث توجد الهاوية السوداء، وعلى غرة المحيط الهائج، سعيد هو الذي يعرف"، وفي المملكة المُتحدة يستعيد النَّاس هذا الشهر ذكرى مرور 150 عامًا على رحيل تشارلز يديكنز أهم أدبائهم في القرن التاسع عشر وذلك باستعادة قراءة رواياته المُختلفة مثل "أوليفرتويست"، وفي فرنسا ارتفعت مبيعات الكتب الإلكترونية بنسبة تراوحت بين 75% إلى 200%، وفرنسا يُوجد بها ما يُقرب من ثلاثة آلاف متجر مستقبل لبيع الكتب تعمل الدولة على دعمها، وحين قيد الحجر المنزلي التواصل بين المتاجر والقراء، لم يقيد الشغف بالقراءة حتى لو كانت إلكترونية لا يحبذها كثيرون ولا تتجاوز نسبة مبيعاتها من إجمالي الكتب في فرنسا 5%،

إن الكتب هنا أكثر عدوى من كورونا، وإنِّها وسيلة لكسر العُزلة، وبناء التواصل مع العوالم والقصص، تصنع من الأحداث الصغيرة عناوين كبيرة، وتجعل من طبقة المُؤلفين نُخبة مُؤثرة لها مكانتها التي لا يُمكن أن يتخيلها أحد؛ هنا الكاتب لا يُحقق دخله من مبيعات الكتاب، ولكن من كثيرٍ من الفعاليات الثقافية وخاصة في المدارس ومؤسسات التعليم؛ ولذا فإنّ كان كورونا لم يُؤثر على إقبال النَّاس على الكتب؛ إلا أنه ألغى دخل كبير كان يحصل عليه المؤلفون؛ ولكنهم لا يتركون ليُواجهوا تلك التبعات لوحدهم فهذه جمعية المؤلفين البريطانية أسست صندوق طوارئ لدعهم بقيمة 330 ألف جنيه إسترليني، لتعويض البعض مما كانوا يكسبونه من فعالياتهم، وهو نفس النهج الذي تمضي إليه فرنسا في دعم صناعة الكتب، وتجنيبها أية نتائج سلبية ناتجة عن فترة الحجر التي منعت النَّاس من ارتياد المكتبات وحضور منتدياتها الثقافية المختلفة، وأيضًا لتوفير أجور المشتغلين في المهن المختلفة في صناعة الكتب.

 

لا شك أنَّ كورونا كشف عن فجوات كثيرة على مستوى العالم المجتمعات خاصة في المجالات الصحية والاقتصادية؛ ومن هذه الفجوات الجانب الثقافي وكيفية قضاء وقت الحجر المنزلي؛ فهناك مجتمعات كانت القراءة والالتصاق بالكتب هي وسيلة مُواجهة الحجر المنزلي؛ بينما لم تكن الكتب البديل المناسب الأفضل لقضاء هذه المدة الطويلة، ولم تكن المسألة مرتبطة بالجانب الاقتصادي وأيضاً ودرجة الكتب فقط لكنها مرتبطة باتجاهات النَّاس والطلبة على وجه الخصوص، ومثل هذه الفجوة الثقافية هي التي تفسر نشاط الصناعة الثقافية في بلدان ومردودها الاقتصادي العالي، وضعفها في بلدان أخرى، حيث يظل المؤلف وكتابه غرباء لا أحد يعرفهم إلا النخبة الصغيرة التي ينتمون لها؛ أو حين يفوزون بجائزة عالمية، أو حين يكتبون رواية أو كتاب يعترض عليه المجتمع ويطالب بمحاكمتهم، وفي ما عدا ذلك من أحوال يُصارع الكاتب لكي يبقى قادراً على الكتابة، فلا جمعية تُمثله، ولا صندوق تعويضات يُمكن أن يشمله، ولا حكومات يمكن أن تدعمه.