لماذا الحاجة لسد منافذ الفساد؟

عبد الله العليان

مُنذ عدة سنوات، كُنت أطالع إحدى الصحف العربية، في بلد عربي، وجدت رسماً كاريكاتيريًّا، يعبر عن قضية الفساد، كحالة تتواجد وتتفشَّى في العديد من دول العالم ومنها وطننا العربي، وهذا الكاريكاتير في هذه الصحيفة عبارة عن حوار بين اثنين من عمال المطافئ؛ فقال أحدهم للأخر في ملخص الحديث القصير: "أحسن نروح من هنا، بدلاً من جلوسنا دون عمل فعلي، وقبل موسم الجَرد السنوي، نأتي لنطفئ الحرائق في المخازن".

والمقصود من رمزية الحديث عن هذا الرسم الكاريكاتيري، مسألة حرق الملفات في المخازن، مع بداية كل العام؛ بهدف إخفاء وقائع الفساد دون الاطلاع على التجاوزات بهذه الملفات!! ولا شكَّ أنَّ للفساد طرقًا متعددة لإخفاء أصابع الاختلاس، وغيرها من الوقائع التي تنتمي إليها، بأساليب مختلفة، وهو بلا شك يتلوَّن كالحرباء، بما يحقق له أهدافه السرطانية الخبيثة، الذي اكتوت بناره بلدان عديدة، وبقيت تعاني في مشاريعها، وخططها، وبنيتها التحتية؛ مما أصاب دولاً كثيرة بالكثير من المديونيات، وبتراجع الكثير من مستويات النمو الاقتصادي وغيره من الخدمات الأساسية...إلخ، وغرقت في أزمات كبيرة، مما تمَّ تسميته بالدول الفاشلة!

وقد يعتقدُ البعض أنَّ الفساد يتمُّ من خلال السرقات المالية المباشرة، وهذا ليس دقيقاً لأنَّ هذه الوسيلة صعبة لوصول الفساد إليها، لوجود سياجات وموانع كثيرة، من الصعب اختراقها مهما تكن إمكانيات قدرة الوصول إلى ذلك، خاصة مع تطور الوسائل التكنولوجية الحديثة، في التسجيل من خلال الطرق المحاسبية الدقيقة في عالم اليوم، لكنَّ أيدي الفساد تتحرك بطرق أخرى لتتسلل إلى مراميها، بحيث لا يتم الالتفات إليها أحياناً، ثم إن الفساد لا يتم من خلال السرقات المكشوفة، التي لابد أن تظهر، ولكن أيدي الفساد له منحنيات والتواءات حربائية، قد لا تكون واضحة لأول وهلة، فأصناف الفساد ومقاييسه تتعدد وتتنوع، فنهاك المحسوبية التي تتفشى في الكثير من المؤسسات والهيئات، وهناك المحاباة للبعض سواء للوظائف، أو  مشاريع بطرق الإسناد التي لا تمر على إجراءات المناقصات، أو التعسف في استخدام السلطة، أو استغلال النفوذ لمصالح خاصة لذوي القرابة أو الصداقة، إلى جانب الرشوة التي تعطى مقابل عطايا، وهذه كلها طرق للفساد، وتحركاته المشبوهة والخطيرة، فإن لم يتم ضرب بؤر هذه الحالات كلها، والقضاء على أسبابها، ستشكل أزمات كبيرة اقتصاديًّا وتنمويًّا واجتماعيًّا؛ مما تصبح معه هذه الحالات، وكأنها مسائل عادية، أو قد يعتبرها البعض نتيجة من نتائج الذكاء والفطنة، لمن يخون الأمانة، ويختلس، ويتلاعب بالمال العام لمصالح خاصة، مع أنها من كبائر الأعمال المفسدة للدين والقيم والوطن.

ومن المهم في بلادنا ونحن مُقبلون على مرحلة مهمة لتطبيق الرؤية المستقبلية "عمان 2040" أن نعمل على محاصرة الفساد بكل أنواعه وآثاره، حتى لا يعيق الخطط المرحلية في مسارها المرسوم؛ فالمخاطر التي تنجم عنه كبيرة، وقد تؤثر بلا شك على مسارات خطط التنمية وتخلخل برامجها، وأتذكر أنَّ معالي رئيس مجلس المناقصات في ديسمبر 2014، تحدث في إحدى جلسات مجلس الشورى، عن أن الأوامر التغييرية خلال خمس سنوات، كلفّت الدولة مليار ريال عماني! وهذا مبلغ كبير جداً بمقاييس المناقصات، التي تمر من خلال فنيين ومهندسين وخبراء، بل إن بعض الأوامر التغييرية أثرت على عدة مشاريع أخرى قادمة وفق ما جاء في المناقشات، كما أنَّ بعض الأوامر التغييرية زادت حتى على قيمة المشروع الأصلي!! فماذا نسمي هذا؟

لذلك؛ الحاجة أصبحت ملحة في ظل الظروف والتحولات العالمية الراهنة لأسعار النفط وغيرها من التحولات، أن يتم تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد بكل صوره وأساليبه، وقد أكد الادعاء العام في مارس 2016، في مؤتمر صحفي، على أهمية مكافحة الفساد وسد منافذه وتحركاته، ذلك أن للفساد آثاره الوخيمة -كما قال الادعاء العام- وقد: "تهتز مبادئ الشفافية والجدارة، وينخفض معه مستوى مواصفات المواد والأعمال والخدمات لتحقيق ربح غير مشروع من وراء تلكم المشاريع، وهو ما يتسبب -في حال الازدياد- في إحداث خلل تدريجي في قدرة الحكومة على تنفيذ مشاريع التنمية وتقديم خدمات المواطنين؛ مما يعني في نهاية المطاف خلق بيئة مناسبة للتذمر والاحتقان الاجتماعي".

الحقيقة أنَّ التشديد ومحاصرة هذا الداء الخبيث، سيُسهم في الارتقاء بالتنمية السليمة من الإخفاقات والعراقيل، ومن عرقلة النمو، ومن الإسهام في الاستثمار الآمن، وهذا لن يتحقق بإتقان إلا في ظل النزاهة، والشفافية، والمحاسبة، وهو ما أكد عليه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- في خطابه التاريخي في الثالث والعشرين من فبراير المنصرم، عن عزم الدولة مراجعة النُّظم واللوائح والقوانين والتشريعات القائمة، وغيرها من الإجراءات، بما يضمن انسيابية العمل الإداري والقانوني بعيداً عن البيروقراطية والروتين، وتطبيق الأسس الفاعلة في دقة الأداء، مع وجود سياج النزاهة، والمساءلة، والمحاسبة، وهذه الأخيرة، هدفها تطويق مكامن الفساد ومحاصرته، وضرب تحركاته، حيث قال جلالته: "إننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئ وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة، لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها".

وبهذه التوجهات المرسومة التي وضعها جلالته في خطابه المهم، ستتحقق الانطلاقة القوية وستنجح في تقويض منافذ الفساد وتحركاته بإذن الله.