د. مجدي العفيفي
(1)
طَوَال متابعة كاتب هذه السطور لما يجرى على الأرض الليبية، معنى ومبنى، وهي متابعة مستمرة في إيلامها بقدر ما هي مؤلمة في استمراريتها، تثير الأسى والحزن، بغض النظر عن المسببات والأسباب ودلالات كثرة التدخلات الدولية والإقليمية في الشأن الليبي، وهي تدخلات تثير ألف علامة استفهام واستنكار وعلامات أخرى.
(2)
كلما أحاول إيجاد علاقات بين دوائر الخيوط المتشابكة، والخطوط التي لا تريد أن تكون متقاطعة، تلوح لي صورة الزعيم عمر المختار، ويهاتفني صوته، رغم سوط جلاديه اللابشر، وشراسة القاضي الهمجي الذي حكم عليه بالإعدام شنقا حتى الموت... لكنهم تناسوا أو بالأحرى أنهم جهلوا ولم يفقهوا معنى "أن سوط الله لا صوت له"؛ فالأحداث الذليلة التي عاشتها إيطاليا بعد ذلك تظل شواهدها دالة، ومشاهدها ماثلة أمام كل ذي حجر.
(3)
الزمان: في الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931.
المكان: مكان بناء برلمان برقة القديم.
الشخصية: البطل الليبي عمر المختار (أسد الصحراء)، 73 عامًا.
المشهد: أثناء المحاكمة، سأله القاضي الذي هو ابن الغزو الإيطالي القبيح عام 1911، وسليل الهمجية الأوروبية ابنة العصور الوسطى المتخلفة:
- هل حاربت الدولة الإيطالية؟
- نعم.
- وهل شجعت الناس علي حربها؟
- نعم
- وهل أنت مدرك عقوبة ما فعلت؟
- نعم.
- وهل تقر بما تقول؟
- نعم.
- منذ كم سنة وأنت تحارب السلطات الإيطالية؟
- منذ 20 سنة
- هل أنت نادم على ما فعلت؟
-لا.
- هل تدرك أنك ستُعدم؟
نعم.
فيقول له القاضي: أنا حزين بأن تكون هذه نهايتك.
فيرد: بل هذه أفضل طريقه أختم بها حياتي..!
فيحاول القاضي أن يغريه فيحكم عليه بالعفو العام، مقابل أن يكتب للمجاهدين أن يتوقفوا عن جهاد الإيطاليين، فينظُر له عُمر ويقول كلمته المشهورة: "إن السبابة التي تشهد في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لا يمكن أن تكتب باطلا"!
ثم كان الحكم... عندما تُرجم الحكم على المجاهد عمر المختار بالإعدام شنقا، اكتفى بالقول: "إنْ الحكم إلّا لله.. لا لحكمكم المُزيَّف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
(4)
هذه بعض شظايا لا تزال مشتعلة بالنار والنور من أفكار وتجارب وخبرات الزعيم عمر المختار، وأعظم ما فيها أنها ليست قولا على قول ولا فكرا على فكر، إنما هي فكر من واقع، يسقط على واقع، يحيي نفوسا قد يخبو حسها الوطني، وقد يبهت شعورها القومي، وقد يتوارى حسيسها خلف أستار كثيفة من الغواية والإغراء من قبل اللاعبين ببريق المال والطمع والجشع وقلة العروبة.
لعل أحفاد عمر المختار يفقهون ما يجرى على أرضهم الطاهرة من قبل من تسول لهم نفوسهم أن يحولوها رقعة الشطرنج ويحركون عليها أحجارهم..
لعل أحفاد عمر المختار يدركون، ولابد أنهم يدركون، خفايا اللعبة السياسية الظاهر منها والباطن، والمخبوء منها والمعلن.
لعل أحفاد عمر المختار يتعيدون حضارتهم تعزيز حاضرهم، ويفقأون عيون تلك الكيانات التي تبحث عن تاريخ، وتبحث زعامات رخيصة، ولا تعقل أن قطرة دم واحدة لا تعادلها آبار النفط العالم أينما كانت.
لنصغ قليلا إلى المناضل والزعيم بحق عمر المختار وهو يقول:
- إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك.
- إنّني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح.
- سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أمّا أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي.
- يستطيعُ المدفع إسكات صوتي، لكنه لا يستطيع إلغاء حقي، وأنا على يقين أن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي.
- كن عزيزاً وإياك أن تنحنى مهما كان الأمر ضروريًّا، فربما لا تأتيك الفرصة كى ترفع رأسك مرة أخرى.
- إنّ الظلم يجعل من المظلوم بطلاً، وأمّا الجريمة فلا بدّ من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء.
- لئن كَسَرَ المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي.
- إن الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك.
- من كافأ الناس بالمكر كافاؤه بالغدر.
- التردد أكبر عقبة في طريق النجاح.
- حينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أنهكت قواه، لكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النهاية.
- نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت.
(5)
جاء في الأثر التاريخي الذي ينهل من صيرورة وسيروة وكينونة البطل عمر المختار، وبالتحديد في الجريمة الكبرى التي ارتكبتها إيطاليا الفاشية بكل قبحها الأوروبي: "بعد استجواب المختار ومناقشته، وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على عمر المختار بالإعدام. وكان لحضور المختار في المحكمة أمام خصومه أثرٌ في نفوسهم، فرؤية شيخ طاعن في السن مُكبَّل بالسلاسل، صريحٌ وشجاع عندما يتكلم، كان لها وقعٌ على الكثير من الحاضرين، ولعلَّ أبرز ما يُظهر ذلك هو أنه عندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن المختار، وكان ضابطًا إيطاليًّا شابًا من رتبة نقيب يُدعى روبرتو لونتانو، حاول أن يُبقي على حياة المختار، فطالب بالحكم عليه بالسجن المؤبَّد نظرًا لشيخوخته وكِبر سنّه، متحججًا بأنَّ هذا عقاب أشد قساوةً من الإعدام، غير أنَّ المدعي العام، تدخل وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته، مستندًا في طلبه هذا إلى أنَّ الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته، ووافقت المحكمة.
وعندئذٍ وقف المحامي، وقال: "إنَّ هذا المُتهم الذي انتدبت للدفاع عنه: إنما يُدافع عن حقيقة كلّنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إنَّ هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًا له، ومن حقه أن يُقاومه بكل ما يملك من قوَّة، حتى يُخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية.. إنَّ العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء وإني آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إنَّ عجلته تدور وتسجّل ما يحدث في هذا العالم المضطرب".
هنا كَثُر الضجيج ضدَّ المحامي ودفاعه، لكنه استمر بالكلام والدفاع عن المختار، فقام النائب العام ليحتج، فقاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة، وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام، بينما المحامي لم يحضر لتلاوة حكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقًا حتى الموت، وعندما تُرجم الحكم إلى عمر المختار اكتفى بالقول: "إنْ الحكم إلّا لله.. لا لحكمكم المُزيَّف.. وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" (للمزيد من التفاصيل: "ماذا جرى في محاكمة عمر المختار في 15 سبتمبر 1931؟ بوابة إفريقيا الإخبارية").
(6)
ستبقى في ذاكرة البطولة العربية هذه القصيدة التي أبدعها أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء أسد الصحراء عمر المختار، وهو الحدث الإنساني الذي زلزل الذين يمتلكون ضمائر حية يقظة في العالم آنذاك، وألقى القفاز في وجوه الدول التي كانت تمتص دماء الشعوب وأموالهم، وتزعم أنها استعمارية، وما هي بمعمرة بل مخربة، وهذا المصطلح (الاستعمار) كاذب ومغرض، سوقته وروجت له الآلة الإعلامية الأوروبية على أيدي المستشرقين المغرضين الذين كانوا أدوات سياسية، لا ثقافية، في أيدي صناع القرار هناك.
انفعل شوقي بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام بحق القائد عمر المختار، بتاريخ 16 من سبتمبر عام 1931 في مركز سلوق، بحضور جميع فئات الجيش والطيران والميليشيات، وأكثر من عشرين ألف مواطن من بينهم المعتقلون السياسيون والأهالي، وتم إحضاره إلى الساحة وهو مكبل اليدين، وتسليمه إلى الجلاد في الساعة التاسعة صباحًا، لتنفيذ الحكم، حتى إن طائرات العدو الإيطالي القبيح عمدت على إثارة الضجيج لمنع عمر من التكلم مع عامة الشعب، إلا أن البطل ظل صامتًا حرًا ينتظر حتفه دون أي اعتراض.
ركزوا رفاتك في الرمال لواء... يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم... تُوحي الى جيل الغد البغضاء
ما ضرّ لو جعلوا العلاقة في غد... بين الشعوبِ مودة ً وإخاء
جرحُ ُ يصيحُ على المدى وضحية... تتلمسُ الحرية الحمراء
يا ايها السيف المجردُ بالفلا... يكسو السيوف على الزمان مضاء
تلك الصحاري غمد كل مهن... أبلى فأحسن في العدوِ بلاء
وقبور موتى من شباب أمية... وكهولهمْ لم يبرحوا أحياء
لو لاذ بالجوزاءِ منهم معقلُ... دخلوا على ابراجها الجوزاء
فتحوا الشمال َ سُهوله وجباله... وتوغلوا فاستعمروا الخضراء
وبنوا حضارتهم فطاول رُكنها... دار السلام وجِلّقَ الشماء
خُيرتَ فاختَرتَ المبيتَ على الطوَى... لم تبن جاها او تلم ثراء
إن البطولة أنْ تموت منَ الظما... ليس البطولة أن تَعُبّ الماء
أفريقيا مهد الاسودِ ولحدُها... ضجتْ عليك أراجلا ً ونِساء
والمسلمون على اختلاف ديارهم... لا يملكون مع المصابِ عزاء
والجاهليةُ منْ وراء قبورهم... يبكون زيد الخيل والفلحاء
في ذمة الله الكريم وحفظه... جسدُ ُ بِبرقة َ وُسِّدَ الصحراء
كرفات نسرٍ أو بقية ضَيغم... باتا وراءَ السافيات هَباء
(7)
وكما أبدع أمير الشعراء ملحمة عمر المختار؛ فهناك الكثير من الكتاب والشعراء في العالم استلهموا عمر المختار شخصًا وشخصية، ورثوه عمر في العديد من القصائد.
ولعبتْ الصورة الفنية دورها أيضا إذ قام المخرج السوري العظيم مصطفى العقاد بتقديم فيلم "أسد الصحراء" عام 1981 أظهر فيه شخصية عمر المختار المميزة، والذي قام بتجسيد دوره الممثل المكسيكي الأمريكي أنتوني كوين، الذي تصادف أنه كان يشبه إلى حدٍّ كبير عمر المختار، وحرص العقاد على تصوير جميع الأحداث الفيلم في المواقع الحقيقة.
وتسجل الذاكرة التاريخية أيضا أنه من أكثر الأمور التي أظهرت مكانة عمر في بلده، توثيق صورة عمر المختار على العملة الورقية الليبية ذات فئة العشرة دنانير.
(8)
يا أبناء ويا أحفاد عمر المختار... أين أنتم الآن من كينونة هذا القائد العربي.. وسيروة المناضل العظيم.. وصيرورة البطل الليبي .. عمر المختار؟
سؤال أكبر من مجرد سؤال: فهل من مدكر؟