أنيسة الهوتية
الحُزن.. شعورٌ مثل بَقيَّة المشاعر الإنسانية المحسوسة وغير الملموسة، وعندما نَقُول غير ملموسة، نعني أنَّ المصاب به يستطيع أن يُخبِئه عن الناس، ويستمر بالابتسام والضحك، دون أن يُلَاحِظه أحد سوى الدهاة وشديدو الملاحظة. ورغم أنَّه مجرد شعور، إلا أنَّه خطير جدًّا كخطورة الأمراض المستعصية التي تُهَاجِم جسم الإنسان كما يهاجم الحزن قلب الإنسان، وإن تمكن مِنه افترسه وعاش فيه، وأفسد كلَّ ثماره، وبما أنَّ القلب هو مِرآة الإنسان ومستقر ومستودع سعادته التي تنعكس منه إلى بصره، وسمعه، وحياته، فإنَّه يتحوَّل أرضاً بوراً حين يتغلغل الحزن فيه، وعالم ذلك الإنسان يبهت تلقائيا، وينتهي به المطاف أن يتحول إلى الأبيض والأسود دون موسيقى، أو صوت، فقط بالإيماءات يستوعب الحياة من حوله.
وقليلون من لديهم القدرة على تخطي أزمات الحزن الشديدة، وأغلب المصابين به يتعايشون معه وكأنه جزء لا يتجزأ من حياتهم، ويقتنعون بفيلمهم الأبيض والأسود بالإيماءات غير آبهين برونق العالم السعيد الذي لا يكاد يصل إليه، وهؤلاء أفضل بكثير ممن يتآكله الحزن ويطويه في صندوق، ثم صندوق أصغر، ثم غيره وغيره أصغر وأصغر، إلى أنْ يجد نفسه يعيش في مساحة لا تكفيه أن يفرد قدميه، أو أن يُحرِّك جسده، ومن ثمَّ تتغطى فتحات الهواء ويختنق لانعدام الأكسجين، ولا يرى بصره غير السواد في مساحته الضيقة تلك؛ وبالتالي يسعى لتحرير نفسه بقتل جسده تحريراً لروحه، وهذا هو الحل الذي يصل إليه أغلب المكتئبين والاكتئاب نوع خبيث من أنواع الحزن.
وبَيْن هؤلاء وهؤلاء هناك المحاربون الأقوياء الشُّجعان الذين يحملون سلاح الإيمان، وقوة التحدي، الذي يكاد يكون مضادًا حيويًّا نفسيًّا، يُعزز مناعة قلوبهم القوية غير القابلة للذوبان والانصهار من حرارة الحزن، وإن دخل فيه من البُطِين الأيمن خرج من البطين الأيسر، دون أن يترك أثراً في الشريان الأبهر.
والمحاربون هؤلاء يتفاوتون في القوة والأقل قوة منهم كالأرض التي تمر عليها حِمَم البراكين الملتهبة، والتي إنْ كانت خضراء مزروعة يحترق كل ماعليها، إلا أنَّها حين تتعافى ستكون خصبة أكثر من ذي قبل.
أما الأرض الصخرية، فتبقى الآثار عليها باقية للأبد، وتزداد قوة وصلابة من ذي قبل.
ومثلمَا يخرج غاز ثاني أكسيد الكربون مُظبِّطا حرارة الغلاف الجوي بعد هطول الأمطار على البراكين، تنزاح عن رؤوسهم الغمائم، وترجع حياتهم أجمل وأريح، بعد أن يمروا من أزمة الحزن التي خرجوا منها، وإن كانت جغرافيا الزمان والمكان قد تغيرت.
ولا تنتهي معركة دون خسائر، وكذلك هي الحال في معركة الحزن مع القلب، وتختلف أحجام الخسائر، ليس حسب اختلاف أحجام المعارك، إنما حسب نوع الأرض التي تُقام عليها المعركة، والقلب الحساس والمرهف وإن كان مقاتلاً أشوس يخرج بخسائر أكبر من غيره.
فكَم مِنْ شَخص بات مفطورَ القلب، ولم يصحُ إثر سكتة دماغية!! وكم من شخص كظم غيظه وتراكمت أحزانه وأصيب بجلطة قلبية أو دماغية!! وكم من شخص فقد السعادة ولذة الحياة، بينما هو يغرق في أحزانه التي تبتلعه كالرمال المتحركة!! وكم من امرأة فقدت جنينها بسبب الحزن والاكتئاب!! وكم وكم من ضحايا الحزن، والأمثلة كثيرة يصعب حصرها، ولكن لا يصعب علاجها قبل وقوعها بأبسط السبل، وهو مد يد العون، وانتشال هؤلاء الضحايا أقوياء كانوا أو ضعفاء من براثن الحزن؛ وذلك ليس بدفع تكاليف باهظة، أو بالبحث عن الأطباء المتخصصين، إنما بالكلمة الطيبة التي تجبر الخواطر.
و"الكلمة الطيبة صدقة".. يُشفى بها جرح القلب، فتُشفى معه حياة إنسان خنقه الحزن.. ومن الحزن ما قتل!