هل هناك مخرج لأزمات أمتنا؟

 

عبد الله العليان

في أحد الحوارات التلفزيونية منذ عدة سنوات، يروي السياسي والأكاديمي الكويتي د. أحمد الربعي، قصة لها أبعاد ومرامٍ، لا تخلو من إشارة إلى أزماتنا وسياساتنا التي جلبت للأمة الويلات والإحباطات والصراعات منذ أكثر من قرن أو يزيد، بعدما رحل الاستعمار وتركنا ندير أنفسنا بأنفسنا بعد الاستقلال، وقد كنَّا نتهمه بأنَّه هو الذي أعاقنا، وسبب لنا الكوارث والأزمات ونهب خيراتنا إلخ!

القصة كما رواها المرحوم أحمد الربعي تقول: إنَّ أحد المهاجرين الشباب من أحد البلدان العربية التي كانت مُستعمرة، سافر إلى بلد عربي من دول الخليج، وكان مع بدايات ظهور النفط وبداية حركة التنمية فيها، ومكث هذا الشخص سنوات طويلة، حتى بعد رحيل الاستعمار من بلده، فقد استقر هذا الشاب في هذا البلد، وتزوج هناك وأصبح رجلاً مع أسرة وأبناء. وفي يوم من الأيام قال لأبنائه: لا تنسوا يا أبنائي أننا لسنا في وطننا الأم، ولذلك لابد أن تعرفوا بلدكم، أو على الأقل تزوره وتشاهدوه عن قرب، ولو لفترة قصيرة في حاضرنا الراهن، حتى تتسنى لنا الظروف للعودة إليه، وفق ما نراه مُناسباً لنا، فحجزوا التذاكر وسافروا إلى بلدهم، وكانت هذه رغبة الأب في المقام الأول، بأن يرى بلده ويذّكر الأبناء بها، وقد هاجر منها فتى صغيراً لا يتجاوز العشرين من عمره.

وعندما وصل المطار، قال لهم الأب:لابد من أن نزور أولاً سوق السمك القديم، وقد كنت أذهب إليه مع والدي آنذاك، وكان شكله المعماري رائعاً في ذلك الوقت، وعندما وصلوا السوق، رأى والدهم الأسماك معروضة مع أحد البائعين، وسأل أحدهم: كم قيمة واحدة من هذه الأسماك؟ قال البائع ثمانون درهمًا؟ قال الرجل: ثمانون درهماً؟ وأنا أتذكر أن قيمته بهذا الحجم أيام الاستعمار لا يزيد عن ثمانية دراهم؟ فقال البائع: هات يا أخي الاستعمار وخذ السمك كله؟!

هذه القصة مُعبرة عن الوضع الذي صارت إليه الأمة، منذ عقود مضت، بعدما تحررت من الغازي الأجنبي، وقد كنَّا نرمي كل المساوئ والسلبيات والتراجعات، على فترة وجود هذا المستعمر، وعندما حمل عصاه ورحل، وأقمنا الدولة الوطنية المُستقلة، في كل الوطن العربي ـ عدا فلسطين السليبة ـ تداعت الأزمات، والإخفاقات، والتراجعات، ولم نُحافظ حتى على بعض المقومات، وكانت تستحق البقاء والتي كانت موجودة، في فترة الاستعمار والدولة التقليدية التي نصفها بالرجعية! من مجالس نيابية، وحريات صحفية، وتعددية مختلفة، مما شكل هذا الوضع مصاعب ومتاعب كثيرة للمواطن في استقراره ومعيشته وحياته، بل وعاد بعض المواطنين مرة أخرى للهجرة من وطنه، بسبب أوضاعه المعيشية، والمشكلات والصراعات المتفاقمة، لكن ليس بالمئات هذه المرة، كما كان أيام الاستعمار، بل بمئات الألوف في بعض بلدان الوطن العربي، وهذا ما جعل بائع السمك في ذلك البلد الذي يُعاني الكثير من المشكلات منذ عدة عقود مضت وحتى الآن، أن يُخرج المكبوت مما في قبله حول سعر السمك، تجاه وضع بلده وبلاد أخرى رحل منها الاستعمار، وقد رقص فرحاً في يوم الاستقلال، وحلم ببلده يشق طريقه في النهضة والتقدم والنماء، فإذا بالأمر ينعكس سلباً، مما اضطره أن يقول "هات الاستعمار وخذ السمك كله"! مع ما بهذه الكلمة من غصة وألم وحسرة وكان لا يتمنى أن يقولها، بسبب ما جرى لوطنه من دمار وخراب ومصاعب، وكانت قبل ذلك الأوضاع- في ظل الاستعمار- في حدها الأدنى، حياة مُستقرة بمقاييس ذلك الوقت وظروفه.

لا شك أنَّ أوضاع الأمة أصبحت تتعدى الأزمات العادية، التي قد تحصل لدول كثيرة، في ظروف قد تكون محدودة في ظل تحولات قد تحدث لفترات بعينها، لكن أزماتنا العربية، لم تعد طبيعية ولا وقتية، بل إنها توالت حتى نخاف ألا يطلق عليها مسمى "الرجل المريض" بسبب ظروفها الراهنة الصعبة، والتي كان يطلق على تركيا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، لكثرة مشكلاتها وانهزامها أمام الدول الأوروبية ثم سقوط الخلافة العثمانية، حتى أن البعض يتخوف من مخططات تقسيم بعض دولنا، إن استمر التردي والصراعات والمشكلات، عندما تتفاقم الأمور وتنفلت الأوضاع عن السيطرة والاحتواء .

قد يرمي البعض على مؤامرة الأعداء ومخططاتهم- الاستعمار سابقاً- وهذه الكلمة أصبحت مبتذلة، لكثرة ما تطرح، حتى في ظل ظروف أخرى لا تتسق ومسألة وجودها، فلماذا نحن فقط نبقى في مربع المؤامرة التي لا تتوقف عنَّا نحن بالذات من غير الأمم الأخرى؟ ولماذا العالم الآخر يتقدم ينهض ونحن بقينا في ذلك الحيز الضيق من الانتكاسات والتراجعات؟ ولماذا لا نعمل شيئاً للخروج من وضعنا المتأزم، سوى اجترار أحاديث المؤامرات الخارجية، دون مراجعة الأخطاء والسلبيات، وهي السبب الرئيس لأوضاعنا!

وإذا كان ثمَّة تدخلات خارجية في بلداننا من أطراف دولية أوغيرها ـ وقد حصلت في ظروف معينة ـ لكن هذه التدخلات لم تحدث لولا أنها نتيجة من نتائج أزماتنا الداخلية؟! هذه مُعادلة واضحة، وعلينا الاعتراف بأنَّ ما نعانيه هو من داخلنا أولاً، ثم بعد ذلك تتحرك الأصابع لأهداف سياسية وإيديولوجية، تعكس توجهات دولية لا تخفى على أحد! ويجب ألا نهرب مما نُواجهه في واقعنا وعلينا أن ندرسه جيداً، ويجب أن نجعل المؤامرات شماعة لأخطائنا وأزماتنا، وهذا وهم يعشعش في ذواتنا، فيتم استغلاله بصورة من الصور، إن وجدت الحاضنة السياسية والاقتصادية والفكرية لهذه التدخلات، ولذلك الحل الأمثل في الخروج من هذا المأزق، أن نراجع سياستنا، ونغّير مما نسير فيه من تخبطات عشوائية وقرارات غير مدروسة وغير عقلانية، وأن نفتح المجال للنقد الذاتي، وتتاح حرية التعبير، وأن تكون هناك معايير للقرارات الواقعية، فيما يتخذ، حتى لا تضيع البوصلة، وتنحرف سفينة الأمة عن مسارها الصحيح.