د. مجدي العفيفي
(1)
هل تقابلها...؟!
قليلاً ما ينفرد الواحد منِّا بذاته.. لعله يتقابل مع نفسه.. وأملا أن يتصالح معها.. ولو تصالح الإنسان مع نفسه لتصالح الذئب مع الغنم، طبقاً لتوصيف التعبير الإنساني في واحدة من أدبياته..
كهف الذات... مهم أن تبقى فيه بعض الوقت، بعض الفكر، بعض التأمل، بعض المُراجعات، بعض جماليات المقام الصوفي (التخلي.. والتحلي.. والتجلي) وهو مقام ليس من السهل الوصول إليه إلا بعد مجاهدات ومطارحات ومكاشفات.. ولا يقدر عليه في الغالب الأعم إلا خاصة الخصوص ممن يُمارسون الطرح الروحي..
قد تستطيع أن تصنع لنفسك كهفاً.. وقد تجد نفسك فيه بدون إرادة.. وقد تجبرك الظروف أن تمكث في الكهف، ولعل ما يسمى بـ «جائحة كورونا» قد هيأت أو أرغمت الكثيرين على أن يلبثوا في كهفهم بضع شهور وازدادوا أكثر..
ولعل أهل القلم والفكر والكتابة والإبداع هم أكثر خلق الله مكوثاً في كهف الذات: استخلاصًا.. تأملا.. تألما.. استنباطا.. استقطارا.. تنظيرا.. تفكيرا.. تحقيقا.. تدقيقا.. تحليقا.. قل ما تشاء..
(2)
خذ منها ما تُريد.. ولكن!
جاء في شريحة من شرائح الكتل السردية للأدبيات الإنسانية حكاية تحمل الكثير من الدلالات وتشي بالجميل من المعاني الثواني قبل المعاني الأوَل، وعنوانها الذي يفكر لها يمكنك أن تشاطرني الاختيار: خذ منها ما تريد... ولكن!
يُحكى أن امرأة فقيرة كانت تحمل ابنها مرت في طريقها بالقرب من كهف فسمعت صوتًا آتياً من أغوار الكهف يقول لها: (ادخلي وخذي كل ما ترغبين ولكن لا تنسي الأساس والجوهر فبعد خروجك من الكهف سيُغلق الباب إلى الأبد... انتهزي الفرصة ولكن خذي حذرك من نسيان ما هو الأساس والأهم لك).
وما إن دخلت المرأة حتى بهرتها ألوان الجواهر ولمعان الذهب.. فوضعت ابنها جانبًا... وبدأت تلتقط الذهب والجواهر، وراحت تملأ جيوبها وهي مذهولة.. راحت تحلم بالمستقبل اللامع الذي ينتظرها.
وعاد الصوت ينبهها أنَّه باقي لك ثمان ثواني... لا تنسي الأساس..
وما أن سمعت أنَّ الثواني على وشك أن تمضي ويغلق الباب فانطلقت بأقصى سرعة إلى خارج الكهف وبينما جلست تتأمل ما حصلت عليه، تذكرت أنَّها نسيت ابنها داخل الكهف.. وأن باب الكهف سيبقى مغلقاً إلى الأبد.. وأحزانها لن يمحوها ما حصلت عليه من الجواهر والذهب.
هكذا الدنيا- كما كان يقول صاحبي وهو يحاورني- خذ منها ما تُريد ولكن لا تنس الأساس وهو "صالح الأعمال".
فلا ندري متى يغلق الباب.. ولا نستطيع العودة للتصحيح.. نحن في غفلة فمتى نصحو؟
(3)
قائمة أسعار العبقرية
في الكهف أيضًا أتذكر محاورة مع أستاذي الراحل أنيس منصور، ذات ليلة من لياليه على شاطئ النيل، وكم كنَّا نتحاور، ونتجادل كجيلين، قال لي ونحن في كهف جدلية فكرية إنسانية، ذكرته بأنَّه يشير كثيرًا إلى إحدى الأساطير الألمانية - والأساطير رموز حيَّة قادرة على العطاء الفكري بما يسكنها من تأويلات مصاحبة للفكر الإنساني مع الحياة منذ بدء الخليقة - تقول هذه الأسطورة: "إنَّ هناك كهفًا اسمه العبقرية، ومن حق كل إنسان أن يُفكر في الذهاب إليه وفي دخوله، بشرط أن يدفع الثمن، وكل واحد يدفع ثمنًا مختلفًا.. لماذا؟ لا يحق لإنسان أن يسأل، لأنَّ أحدًا لا يعرف من الذي وضع قائمة أسعار العبقرية، ولكن عندما يدخل الإنسان، يجد أنه دون أن يشعر قد دفع الثمن: جسمه أو صحته أو نومه أو سعادته أو نصف عمره أو أكثر من النصف، هذا هو الشرط، فالعبقرية لها ثمن يدفعه العبقري، ويدفعه الناس من حوله أيضًا".
ولما سألته: وأنت؟
فقال: «كانت الصحة هي الثمن، كأنني حجر متحرك، يتشكل ويتلون لأنه يتحرك، ولأنه يتحرك فلا ينبت عليه العشب، عشب الأمان، وزهور المودة، وثمرات الحب، والنَّاس أنواع: أناس يمكن تحريكهم، وأناس يستحيل تحريكهم، وأناس ولدوا متحركين، كأنني ولدت على ظهر سفينة، كأنني سحابة صغيرة جاءت من بعيد لتسقط أمطارًا في أماكن مختلفة لا تعرفها، كأنني بطاقة شخصية سطرها: فلان، موطنه: مجهول، نهاره: قلق، ليله أرق.
وإذا كان كل إنسان في يديه القدرة على الاختيار في أن يكون ناجحًا أو فاشلًا، رغم الظروف، أو بسبب الظروف فليس في يده أن يكون موهوبًا، ولا في يده ولا الظروف ولا كل قوى الكون أن تصيره عبقريًّا، فالنجاح من صنع الإنسان والعبقرية من صنع الله تعالى. نحن لا نعرف ما المقدمات التي تأتي بإنسان موهوب، ليس من الضروري أن يكون أبواه كذلك.. ولا من الضروري أن تكون بيئته ثقافية فنية.. ولا من الضروري أن ينتبه أحد إلى وجوده وهو صغير فيرعاه حتى يكون نجمًا في زمانه.. فالموهبة ليست وراثية.. ولا هي معادلة كيميائية.. ولا هي بالحرية في التربية ووفرة الكتب والطعام والشراب والمتعة بين يدي أي إنسان.
لكن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الموهبة كان ذلك لحكمة.. فهو لم يخلقها عبثًا.. وإنما لتبقى للناس وتضيء لهم.. تمامًا كما أرسل الأنبياء والرسل.. لذلك فلا تختفي موهبة.. وإذا ظهرت لا يستطيع أحد أن يتجاهلها.. قد يظلمها.. قد يقسو عليها.. قد يحاربها.. لكنها سوف تبقى دليلًا على حكمة الله وحماقة الإنسان، وقد يلقى الموهوب ما يشجعه من الشهرة والمجد، وقد لا يجد ذلك.. فالموهبة سلعة تحتاج إلى من يعرضها وينادي عليها ويبيعها ويلم الناس حولها. بعض الموهوبين أساتذة في البيع والشراء، وبعضهم يفضل أن يبقى في مكانه ويرى إهدارًا لموهبته أن يدل الناس عليه (على نفسه).. وفي التاريخ ألوف أخذوا أكثر مما يستحقون، وشغلوا مساحات أوسع في الكتب؛ لأنهم أعلى صوتًا، وأطول ذراعًا وأكثر إلحاحًا على عيون وآذان الناس!
ألم أقل لكم.. هكذا استغرقتنا أجواء الكهف للتحديق والتحليق!
(4)
لابد أن تولي منهم فرارًا!
إلا أنَّ الاستغراق الطويل في لذة المكوث في الكهف له تداعيات قد تبدو سلبية، ولك في قصة أهل الكهف، التي يبسطها القرآن العظيم، التصور والمثال، (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).
فعندما بعثهم الله بعد أن (لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا)، يخبرنا القرآن (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا).
أعرف كثيرا ممن يلبثون سنينا في كهوفهم الفكرية والأخلاقية والسياسية والأيدولوجية عامة، يرفضون الحياة من حولهم، ولا يعترفون بالتغيير والتجديد والتحديث،ولابد أن تولي منهم فرارا وتمتليء رعبا من افكارهم وقد تجمدت، واطروحاتهم وقد تحجرت، وتعبيراتهم وقد تيبست.
(5)
أهل الكهف زادوه احتراما
بالمناسبة والشيء بالشئ يذكر.. أستدعي من الذاكرة الحوارية لي مع شيخنا الراحل توفيق الحكيم وكان يتذكر الأجواء التي أحاطت به وعاش فيها، أيام نشر مسرحية أهل الكهف في الثلث الأول من القرن الماضي، إذ قال لي بالحرف الوحيد «القرآن الكريم جعلني كاتبا محترما» وذلك مثبت في مخطوط من تسع صفحات بخط يده، وسيكون فصلا كاملا في كتابي القادم «بصمة العقل» فيه عشرة من كبار المبدعين والمفكرين العرب أعطوني أوراقا بخط يدهم عن شرائح من حيواتهم الشخصية والإنسانية والثقافية والاجتماعية.