التمتمات الأخيرة للمتقاعدين

 

خالد بن درويش المجيني

"ساعة الهذيان تفضح موت موتانا..."، كتبها المبدع الشاعر قاسم حداد وغناها بدفء خالد الشيخ في إصدار "صباح الليل"، فالموتى لا تخالط نزعاتهم الأخيرة الكذب، فلا خسارات بعد حاجز الموت، ولا حسابات لمصالح دنيوية، فهيبة الموت تذيب محاذير الحياة وأقفالها وصمتها، وتفك عقدة اللسان.

ترى ماذا سيقول المتقاعدون بعد موتهم الوظيفي، هل سيلوذون بالصمت أم هناك أسرار سينبشونها، وإلى أي المحطات سينتمي هذا الحديث؟!

في اعتقادي أنَّ الحديث سيكون صادقاً ولكن ليس في كل حالاته، وسينتهي في مجمله إلى مسارين، أولهما حديث مشبع بالألم والغضب، وهو بمثابة فكرة "التطهير" في علم النفس، فتخف ثورة الغضب، إذا أخذ معه إلى "غياهب الجب" من يعتقد أنهم يستحقون ذلك، ملوحًا بمقولة "أنا ومن بعدي الطوفان"، وسيظهر لدينا –وقد بدأ في الظهور فعلاً- من يكيل التهم ويتعرض لأشخاص بعينهم، محاولاً بالهمز واللمز تارة، والتصريح تارة أخرى، بأنهم سبب الفساد، مطالبًا بوضع رقابهم تحت المقصلة لكي تنطلق عجلة الإصلاح.

ستتداخل الأصوات، وستعج وسائط التواصل الاجتماعي بهذه التمتمات، وسيصعب التمييز بين الغث والسمين، ومن في ذلك غايته مصلحة الوطن أو تصفية حساباته في معركة أخيرة. ومع الغضب والانفعال قد يفقد البعض بصيرته للحظة، ولن يفرق بين أسرار الوظيفة التي يجب أن يصونها ويموت معها، وبين حدود واجبه الوطني في تبيان الثغرات التي يتغذى منها الفساد، ولربما جره غضبه وإفشاء تلك الأسرار إلى عتبات المساءلة القانونية والتعرض للعقوبة.

ولا محالة، إن حالة الغضب والبوح والهذيان تلك ستكون فرصة ذهبية، يسيل لها لعاب المتربصين، وخصوصاً من الخارج، وستغدو مادة دسمة لوسائط التواصل الاجتماعي، ولربما يبنى عليها جهد إعلامي منظم وممنهج، غايته زعزعة ثقة المواطن بالمجتمع ومنظومة العمل الحكومي، وهو أمر يجب الانتباه له وأخذه بعين الاعتبار.

في المُقابل هناك مسار آخر ومشهد موازٍ، أصحابه ممن يتمتعون بالتمرس والحكمة وبعد النظر، ويمتلكون القدرة على التحكم بأعصابهم، والتوازن في تمييز الحدود بين المصلحة الخاصة والعامة، فقد منحتهم السنين والأحداث عصارتها وخلاصتها، وقدر لهم معرفة ما لا يعلمه غيرهم، فعبر السنون الطوال أبصروا "خلف الحجاب"إجراءات عقيمة كـ "تفق البرزة"، تعطل مسار العمل، ووقفوا على استثناءات سحرية تقتات على ثغرات القوانين، وتصنع من الأقزام عمالقة، أصبح اليوم الكشف عنه ومعالجته واجباً.

إن قيمة هؤلاء تكمن في أنهم يحملون ملفات مهمة، لا تلتفت للشخوص وليس هدفها الانتقام وتصفية الحسابات؛ وإنما غايتها تقديم عصارة خبرتها العملية العميقة لإصلاح منظومة العمل، لاذت بالصمت عن البوح بها إبان سنوات عملها، لأسباب "في نفس يعقوب" أصلها الحرص على لقمة العيش، أما الآن وبخروجها من طوق الوظيفة تجد أمامها المساحة الكافية للبوح وتبيان مواطن الخلل التي يجب الاشتغال عليها لتجويد المستقبل.

ما أراه، إن هذه الأحاديث والهمهمات وحالات البوح أو الرغبة فيه - بمختلف مستوياتها واتجاهاتها ونواياها- ذات قيمة عالية جداً، يجب المسارعة في استثمارها بإيجاد أذن واعية مصغية، ومصب جديد، متحرر من الصيغ السابقة، يتحلى بثقة الجميع وقادر على الفِعَل، وليكن كمقترح مسارا إلكترونيا "للمكتب الخاص" الذي أنشئ مؤخرا وفق المرسوم السلطاني السامي رقم 59/2020، بحيث إن ما يصل له يجب أن يكون محل اهتمام ومكفول بالسرية، ويوفر الحماية لمن يرغب في البوح، بذلك يمكن الاستفادة من عصارة ذوي الخبرة والفكر من المتقاعدين في الكشف عن مواطن الخلل والضعف أينما كانت، فالتشخيص هو نصف العلاج، ولا ريب أنَّ من شأن ذلك تسريع وتيرة عمليات التحقق والتقصي والدراسة، وسيختصر سنوات من العمل وملايين من الريالات.

تعليق عبر الفيس بوك