الوضع العالمي القائم نتاج رد فعل جزئي ضد الشيوعية وثمرة للجهل المعرفي

"رأس المال والأيديولوجيا".. بيكيتي يضرب مجددًا نحو "اشتراكية تشاركية" لتحقيق المساواة والعدالة

ترجمة- رنا عبدالحكيم

يدفع الخبير والكاتب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في مؤلفه النوعي "رأس المال والأيديولوجيا" بضرورة بناء منظومة عالمية جديدة تقوم من أجل تحقيق هدف إنساني يتمثل في التأسيس لـ"اشتراكية تشاركية" جديدة، تقوم على أيديولوجية المساواة والملكية المجتمعية والتعليم وتقاسم المعرفة والسلطة.

ويخلو الكتاب- الذي يقع في 1000 صفحة من القطع الكبير- من أي إشارات أو تلميحات "ماركسية"، إذ إنَّ سياسات بيكيتي انعكاس لرؤية إصلاحية ليبرالية، كما إن مفهومه لرأس المال أقرب إلى فئة المحاسبة من القوة الاستغلالية التي نادى بها الاقتصادي الأشهر كارل ماركس.

توماس بيكيتي.jpg
 

ويلاحظ بيكيتي- وهو مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية وأستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد- أن الاقتصاد العالمي ليس حقيقة طبيعية؛ فالأسواق والأرباح ورأس المال كلها تركيبات تاريخية تعتمد على الخيارات. ويستكشف بيكيتي- بحسب استعراض للكتاب نشرته صحيفة ذا جارديان البريطانية- التفاعلات المادية والأيديولوجية للمجموعات الاجتماعية المتضاربة التي أفرزت للبشرية العبودية والاستعمار والشيوعية، وتوحش رأس المال من أجل بناء حياة أصحاب المليارات. ويخلص إلى أن الدافع الكبير للتقدم البشري على مر العصور تمثل في النضال من أجل المساواة والتعليم وليس- كما يقال في كثير من الأحيان- التأكيد على حقوق الملكية أو السعي لتحقيق الاستقرار. ويوضح الكاتب أن الحقبة الجديدة من عدم المساواة المتطرفة التي أعاقت هذا التقدم منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليست سوى رد فعل جزئي ضد الشيوعية، لكنها أيضًا ثمرة الجهل والتخصص الفكري وانجرافنا نحو الجدل الفلسفي العقيم حول قضايا الهوية.

ويرى بيكيتي أنه بمجرد فهم ذلك، يمكن البدء في تصور نهج أكثر توازناً للاقتصاد والسياسة. ويجادل الكتاب من أجل "اشتراكية تشاركية" جديدة، من خلال نظام يقوم على أيديولوجية المساواة والملكية الاجتماعية والتعليم وتقاسم المعرفة والسلطة.

ويقدم الكتاب الجديد تاريخًا لكل شيء تقريبًا؛ إذ يبدأ بتسلسل زمني بنظرة شاملة للاقتصادات الإقطاعية وغيرها من الاقتصادات في حقبة ما قبل الحداثة، وينتهي بالمعضلات التي تفرضها حركة السترات الصفراء، وهي حركة احتجاجية نشأت في فرنسا مؤخرا. والنطاق الجغرافي الذي يتناوله الكتاب عالمي، مضاف إليه البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ("بلدان منظمة بريكس")، فضلاً عن تحليلاته السابقة لأوروبا والولايات المتحدة. كما يغطي الكتاب عصر العبودية والاستعمار باستفاضة.

وتكمن فرضية كاتب "رأس المال والأيديولوجيا" في تأكيد الفكرة الأخلاقية بأن عدم المساواة أمر غير مشروع، ومن ثم يتطلب الأمر وضع أيديولوجيات لتبرير وإدارة عدم المساواة. ويقول بكيتي بجرأة في كتابه: "يظهر التاريخ أنَّ البحث عن توزيع الثروة المقبول لغالبية الأشخاص هو موضوع متكرر في جميع الفترات والثقافات". ويؤكد أن توزيع الدخل والثروة والتعليم على نطاق أوسع يجعل المجتمعات أكثر ازدهارًا، لذا يرى ضرورة القضاء على الأيديولوجيات الرجعية لأن ذلك هو الشرط الرئيسي للتقدم الاقتصادي.

لكن ثمَّة خطر جراء هذا التفكير، يتمثل في إسقاط بعض الحساسيات تجاه الديمقراطيات الليبرالية مع مرور الوقت، ويبدو أن الكاتب يفترض وجود مجال عام يعمل بشكل جيد لتحديد وتخصيص الممتلكات على أساس الحجج والأدلة المنطقية، بدلاً من الهيمنة أو الانتهازية. وقد يتردد المؤرخون الاقتصاديون تجاه هذه القضية، لكن بيكيتي يدفع ببعض المكاسب البلاغية والفلسفية لإجبار الناس على مواجهة العدالة (وعدم وجودها) في النماذج الاقتصادية المختلفة.

وفي الجزء الأكبر من هذا الكتاب الضخم، يرسم بيكيتي "أنظمة عدم المساواة" السائدة خلال الألفية الماضية؛ حيث تجلت "المجتمعات الثلاثية" (النظام الإقطاعي) بما تضمه من طبقات رجال الدين والعسكريين والعُمال. ثم تطورت "المجتمعات الملكية" خلال القرن الثامن عشر، وأصبحت مسيطرة بحلول نهاية القرن التاسع عشر، مركزة الدخل والثروة في أيدي العائلات المالكة والطبقات البرجوازية الجديدة. في حين أن "مجتمعات العبيد" قدمت النموذج الأكثر تطرفًا لعدم المساواة (تم الكشف عن دولة هايتي حوالي عام 1780 على أنها أكثر المجتمعات غير المتساوية المسجلة). وكان لدى "المجتمعات الاستعمارية" مجموعات مختلفة من القوى العسكرية والملكية البرجوازية والرق.

بينما يكشف الكتاب عن وضع مأساوي في المجتمعات الشيوعية وما بعد الشيوعية؛ حيث نتج عن المساواة الكاملة والمثالية (نتيجة لتطبيق الشيوعية) الفقر والركود الاقتصادي ثم التفاوت المتفشي لروسيا الأوليجارشية المعاصرة؛ أي حكم الأقلية الغنية، أو ما يعرف بتزاوج المال والسلطة.

ويختتم بيكيتي كتابه بوضع برنامج سياسي مؤقت يهدف إلى مواجهة التحدي القائم في كل دولة، ويتضمن بعض الأفكار الجريئة مثل: ميزانية التعليم المتساوية لكل مواطن، ليتم استثمارها حسب اختيارهم. لكن يعتمد بيكيتي في الغالب على أفكار الحكم التشاركي، والضرائب التصاعدية، وإضفاء الطابع الديمقراطي على الاتحاد الأوروبي، وضمانات الدخل التي تم تداولها على راديكاليي اليسار الليبرالي لعقود.

وترى الصحيفة في ختام استعراضها للكتاب أنه يكفي القول إن تسمية مثل هذه السياسات أسهل بكثير من تنفيذها، مشيرة إلى أن بيكيتي قد يكون محقًا في أنه بالنظر إلى أزمة المناخ- ضمن عوامل أخرى- لا يمكن الحفاظ على مستويات عدم المساواة الحالية لفترة طويلة، وأنه سيتم إدخال سياسات جديدة، إذ إنه يفضل اتخاذ موقف متفائل، بناءً على افتراض أن "أنظمة عدم المساواة" لا تستمر إلى أبد الآبدين. وتؤكد الصحيفة أن كتاب "رأس المال والأيديولوجيا" مقدر له أن يكون أحد الكتب التي لا غنى عنها في عصرنا، وهو عمل لن يساعدنا على فهم العالم فحسب، بل سيغيره.

تعليق عبر الفيس بوك