أخطاء تنفيذ التقاعد.. وصناعة صراع الأجيال

 

د. عبدالله باحجاج

من الأهميَّة القصوى إغناء مرحلتنا الوطنية الراهنة بالآراء المتعددة والمختلفة حتى تسهم في إنضاج وتمتين نهضة البلاد المتجددة، خاصة وأنَّ هذه المرحلة تكثُر فيها الورش والانشغالات والتحضيرات للحقبة السياسية الجديدة التي ستنطلق فعليًّا مع بداية العام 2021.

وبدأ يُطرح مصطلح جديد في بلادنا وهو "الدولة الرشيقة"، وبدأنا نشهد هذه الأيام تحولات كبرى تصب في جوهر الترشيق، مما يستدعي الآن طرح التساؤلين التاليين: كيف يمكن لبلادنا أن تتحول للدولة للرشيقة دون إحداث قفزات اجتماعية كبرى؟ ومن أين ينبغي أن تبدأ أولى خطوات الترشيق، وفي الوقت نفسه تحافظ على قوتها الاجتماعية ووحدتها؟

تساؤلان تستدعيهما مسارات الترشيق التي بدأت من المنظور الاجتماعي أولا، وصاحَبَتها خطابات نخبوية تشطر المكون الديموغرافي إلى جيلين عدائيين، لعلنا بذلك نصوِّب مثل هذا المسار الخاطئ، ونتفاعل مع التفكير السياسي في توجهاته الساعية للتحول نحو الدولة الرشيقة في ظل المساعي لتطبيق "رؤية 2040" الطموحة التي تسعى لصناعة اقتصاد قوي وتطوير المجتمع من منظور الإنتاجية والتفاعل مع الثورة التكنولوجية الخامسة، وتبني نظاما لا مركزيًا في إطار تجربة المحافظات.

من هنا، يُمكن القول إنَّ التحول لهذا النوع من الدول، ليس شرطا أن يكون دافعه ضغوطات مالية وإنما إصلاحية، وقد تكونان معا، وقد توظف ظروف مستجدة ضاغطة لنجاح مرحلة التأسيس بعد أن تتوافر لها الإرادة السياسية القوية، وهى غالبا ما تكون -أي هذا النوع من الإرادات- نتيجة رغبة إصلاحية مُلحَّة لنظام سياسي قائم، أو نتيجة عهد سياسي جديد كمرحلتنا الوطنية الراهنة التي تتقاطع مع بداية عهدها السياسي الجديد أزمتا كورونا والنفط، مما يضع خيار الدولة الرشيقة ضمن هذه الأولويات العاجلة.

ومن حيث المبدأ؛ يمكن القول إنَّ الدولة الرشيقة خيار بلادنا الوطني، وهو يمكن أن يكون الإنجاز التاريخي لعهدنا السياسي الجديد، بل مستقبل البلاد لـ50 سنة مقبلة، ومن هذا المبدأ نسلم بوجود كيان بطيء جدا ومعقد جدا، وينبغي تطويره. لكن -وهذا هو الأهم- ينبغي أن يكون ذلك مشروطا بمراعاة الأبعاد الاجتماعية، ووحدة الجغرافيا والديموغرافيا؛ فبلادنا بحكم جغرافيتها الجيوإستراتيجة والأطماع الإقليمية فيها، وتعدد جماعاتها المحلية وتأثير البعد الديني على مكونها الديموغرافي الذي يشعر بأنها أسبق من الدولة بالمفهوم السياسي، ولن ننسى طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع التي تأسست منذ 50 عاما، كلها تحتِّم طرح مسألتين؛ هما: حتمية صناعة التوازن بين الاقتصاد والمجتمع؛ لا إفراط ولا تفريط في أحدهما، وأنَّ التغيير أو التطوير الاجتماعي ينبغي أن يكون ذكيًّا ومُتدرجًا؛ بحيث نتجنب القفزات الاجتماعية الفُجائية.

وهذا يعني أن هاجس التوازن المالي الذي يشغل رجالات المال على حساب البعد الاجتماعي لا يمكن الاعتداد به، ولا ينبغي تمكينهم من تحقيقه إذا كان يمس الرابط الولائي والانتمائي للدولة. لذلك؛ مفهوم الدولة الرشيقة في بلادنا يختلف شكلا ومضمونا عن المفهوم الغربي؛ فرشاقة الدولة في بلادنا، تبدأ أولا من الحكومة عبر تقليص كل آليات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ولجانها، وحل إشكاليات تداخل صلاحياتها، وتوحيد صناديق تقاعدها، والسماح بمؤسسات المجتمع المدني المستقلة والمتعددة، وإعادة النظر في القوانين، ومرونة وسرعة السياسة الداخلية والشراكة في اتخاذ القرار...إلخ.

كلُّ هذه المسارات ينبغي أن تخضع لبرنامج قاسٍ من "الرجيم" (الحِمية)، فمنها أولا يمكن تحويل الدولة إلى أكثر رشاقة؛ بحيث تكسب الرضا الاجتماعي وتبعث برسائل فورية للداخل والخارج، ومن ثمَّ العمل على صناعة ثقافة وطنية جديدة، قائمة على ثقافة الواجبات قبل ثقافة الحقوق، على عكس المرحلة السابقة التي غلبت الأخيرة على الأولى، ومن هذه الثقافة يمكن تطوير المجتمع وفق أجندة "رؤية 2040"؛ لأن تطوير المجتمع وإصلاحه ينبغي أن ينطلق أولا من إحداث نقلة في البنى الفوقية للذهنية الاجتماعية وليس من خلال الصدمات المالية.

وهذا النهج يهدف للحفاظ على المنظومة الولائية والانتمائية وجعلها ضمن الأولويات السياسية الكبرى، وأية عملية إصلاحية داخل المنطقة الاجتماعية ينبغي أن تُدرس بعناية وذكاء كبيرين؛ لأنها ليست مصدرا اقتصاديا أو موردا ماليا يُمكن البحث عن بديل له، وإنما هي مصدر الاستقرار وبيئة النجاحات؛ وبالتالي فهى الأساس الذي ينبغي أن تتركز عليه جل السياسات الجديدة. فتحقيق التوازن المالي -الذي يبدو لنا طاغيا على الفريق المالي، وصوته مسموعا الآن- لا ننظر إليه من خلال تقليص أو تخفيض مداخيل المواطنين، وإنما من خلال التنويع في مصادر الدخل وترشيق مؤسسات الدولة وفق ما أوضحناه سابقا.

لذلك؛ سنشهد مع بداية العام 2021 انخفاضا ملموسا في القوة الشرائية نتيجة إحالة الآلاف من الموظفين للتقاعد الإلزامي، والتأثير نفسه على تاريخية المنظومة الولائية العمودية ما لم نسارع من الآن بخطوة استدراكية عاجلة لتحسين راتب ومكافآت تقاعدهم.

وهذه الخطوة حتمية لرفع معنويات جيل كامل يُغادر الوظيفة العمومية إلزاميًّا وبصورة مفاجأة، ويواجه من بني جيله موجة عدائية غريبة وعجيبة لا تعكس الوعي المفترض فيها، فأحدهم يتَّهم هذا الجيل بأنه يقف مُعرقِلا لدور الشباب في بناء النهضة المتجددة، لذلك عليه المغادرة، وهذا خطاب مرفوض تماما، ويشكل إهانة لهذا الجيل الولائي والانتمائي المخلص، ولو اعتمدنا معياره، فهو ينطبق كذلك عليه وعلى كل المستويات الوظيفية العليا والدنيا، فهم من هذا الجيل وبالتالي عليهم المغادرة كذلك.

وإذا كان هذا الجيل قد تقادم على حدِّ وصفه، فكيف يظل -وأمثاله كثيرون- في مسمياتهم الشرفية التي يتقاضون منها أموالا عامة؟ لذلك؛ نشهد الآن مرحلة تجاذبات لم نكن نتوقع أنها تصل إلى مستوى الاتهامات، وترمي جيل النهضة في زوايا العجز والتقادم، وقد غرق صاحبنا في جهل وعيه؛ وذلك عندما نظر للقضية على أنها من دواعي مُغادرة الآباء من أجل إحلال الأبناء، وهذه مفارقة الوعي النخبوي، ولم يرشده وعيه إلى أنَّ المسالة وراءها أنصار التوازن المالي، وليس لها علاقة بإحلال جيل الآباء محل جيل الأبناء، كما يستخدم مثل هذه المفردات.

ودُون إخضاع أية تحوُّلات جديدة للدراسات المعمقة؛ فإنَّها تظل رهينة الاجتهادات والأهواء، ونتائجها غير مضمونة، وقد انصدَمنا لتأويلات بعض النخب القريبة من النخب المؤثرة في صناعة القرار لقضية ديون الموظفين المحالين للتقاعد الإلزامي؛ فهى ترجع هذه الديون إلى رغبة الموظفين في شراء الأسهم والسيارات الفاخرة والعقارات...إلخ؛ وهذا حكم قاسٍ وظالم، علما بأنَّ وراء هذه الديون قصصا كبيرة، إما لبناء مسكن أو لعلاج قريب أو لدراسة الأبناء أو لزواجهم...إلخ. وقد لجأوا إلى البنوك وإلى الجمعيات الإقراضية، تخطيطا لما تبقَّى لهم من سنوات الخدمة القانونية؛ مما يشكل لهم التقاعد الإجباري المفاجئ صدمة كبرى، ومن المؤكد ستكون لها تداعيات اجتماعية كبيرة ما لم يُصاحب هذا النوع من التقاعد تحسين مكافآت ما بعد الخدمة ورد الاعتبار لترقياتهم المستحقة من عدة سنوات.

وهناك كذلك خطوات أولية وعاجلة تستلزم القيام بها في سلم الأولويات أولا، وقبل المساس بالقاعدة الشعبية، وهى فتح ملفات مشاريعنا الاقتصادية العملاقة التي تصرف عليها الحكومة المليارات من الريالات السنوية منذ عدة سنوات؛ بحيث أصبحت الآن تخدم الاقتصاد العالمي والدعم اللوجستي عبر البحار، فما هي انعكاساتها المالية على خزينة الدولة؟ كميناء ريسوت الذي تم إنشاؤه عام 1998، وقيل في حينها إنه سيحول تنميتنا إلى تنمية شبيهة بإحدى الدول الآسيوية، وهو مُصنَّف بين أكبر موانئ إعادة الشحن في العالم، ويأتي إقليميا في المرتبة الثانية من حيث الحجم، والأول في المحيط الهندي، ويعد من أكبر موانئ المياه العميقة في العالم، ويمكن القياس عليه لبقية موانئ البلاد الأخرى.

وكذلك منطقة الدقم الاقتصادية بمينائها وحوضها الجاف ومشاريعها الاقتصادية، وكذلك المناطق الحرة والصناعية...إلخ؛ مثل هذه المشاريع العملاقة آن الأوان أن نتساءل عن انعكاساتها المالية على خزينة الدولة سنويا؟ لأنه يفترض أن تكون عوائدها المالية ملموسة وثقيلة على خزينة الدولة، وربما لن نبالغ لو قلنا هي وحدها يُفترض أن تشكل المصدر الأول للدخل، وهى كفيلة بحل مشكلة الباحثين عن عمل.

قدَّمنا إجابة موضوعية وشفافة لتساؤل: من أين نبدأ تحقيق الدولة الرشيقة القوية بتوازنها المالي والاجتماعي وقوتها؟ ونؤكد أخيرًا أنها تكمن في ثنائية التلازم الإيجابي بين الاقتصاد والمجتمع، وانعكاس النمو الاقتصادي على المجتمع دون إحداث قطعية أو عداء بين الأجيال، فتسطيح القضية وفق مشهد مغادرة الآباء من أجل الأبناء، هو من كبرى سقاطات النخب السياسية ربما لدواعي الاقتراب من السلطة الجديدة، دون أن تعلم أنها بذلك تستثني نفسها وغيرها من تهم التقادم والإرهاق وعرقلة مسيرة الشباب في بناء عُمان المتجددة، والآن تثبت أن التحولات ينبغي ان تبدأ من القمم وليس من القاعدة.

فمثل هذا الفكر الذي يشطر المكوِّن النوعي للديموغرافيا، ويستفز جيلا على جيل، لا مكان له في نهضة عُمان المتجددة، وهى نهضة كما نتصورها تكون من الكل للكل، ولن تنطلق بجيل على حساب جيل أو شعور جيل النهضة بالمظلومية، وهى نهضة متجددة بجهد أبنائها الفكري والعضلي وليس العُمري، لأن ذلك ضمانة وحدتها الوطنية وأمنها واستقرارها، هكذا نفهم مفهوم النهضة المتجددة، ومنه -أي المفهوم- نقول إن هناك أخطاءً تُوصف بالتاريخية تُرتكب بحق جيل الولاء والانتماء، سببها القصور في تنفيذ الأمر السامي بدءا من المغادرة غير المشرِّفة ماليًّا ومعنويًّا، مرورا بالمعايير المعتمدة للخروج الإلزامي، الذي فرَّغ المؤسسات الحكومية من أُطرها وكوادرها التي تصنع نجاحها، وتعد أدوات مفصلية لقوة البلاد الناعمة، مما يستوجب الاستدراك سريعا بعودة الأجنحة وبتحسين راتب ومكافآت تقاعد الآخرين.