الإنسان والتكنولوجيا (3-4)

عبيدلي العبيدلي

شخّص الكثير من العلماء عمق التأثير الذي تحدثه التكنولوجيا في التحولات الاجتماعية، وقد ذهب الكثير من علماء الاجتماع كما ينقل رشيد الحاج صالح، إلى التأكيد على "أن الاختلاف بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة يرجع للأثر الاجتماعي للتكنولوجيا في تلك المجتمعات.

ويضيف هؤلاء العلماء أن سرعة التغيير في المجتمعات المتقدمة تعود بشكل أساسي إلى إدخالها التكنولوجيا في مختلف نواحي الحياة، حيث تؤثر التكنولوجيا وبشكل سريع في تغيير نمط حياة المجتمع وتفتح أمامه سيلا هائلا من المتغيرات على مستوى: بنية الأسرة، مجتمعات العمل، العلاقات الاجتماعية، طرق العيش، تشكل الطبقات، أنظمة الحكم".

ومن بين هؤلاء العلماء الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان (ومارشال هنا ليس رتبة عسكرية بل جزء من اسم ماكلوهان الأصلي) 1911-1980 الذي "أحدثت نظرياته في وسائل الاتصال الجماهيري جدلاً كبيرًا، فهو يرى أن أجهزة الاتصال الإلكترونية ـ خاصة التلفاز ـ تُسيطر على حياة الشعوب وتؤثر على أفكارها ومؤسساتها".

وحول تشخيص مالكوهان للعلاقة بين التقدم التكنولوجي والتغير الاجتماعي، نجد ماكلوهان، كما يرد في كتاب "نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري من تأليف مصطفى يوسف كافي وآخرون، " شديد الإعجاب بعمل المؤرخين أمثال الدكتور وايت White Jr صاحب كتاب (التكنولوجيا الوسيطة والتغير الاجتماعي)، الذي ظهر سنة 1962 وفيه يذكر المؤلف أن الاختراعات الثلاثة التي خلقت العصور الوسيطة هي الحلقة التي يضع فيها راكب الحصان قدمه Stirrup وحدوة الحصان Nailed Horseshoe، والسرج Horse Collar.. فبواسطة الحلقة التي يضع فيها راكب الحصان قدمه استطاع الجندي أن يلبس درعاً يركب به الحصان الحربي؛ وبواسطة الحدوة والأربطة التي تربط الحصان بالعربة Harness توافرت وسيلة أكثر فاعلية لحرث الأرض، مما جعل النظام الإقطاعي الزراعي يظهر، وهذا النظام هو الذي دفع التكاليف التي تطلبها درع الجندي".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ماكلوهان، كان بخلاف كارل ماركس الذي كان مؤمنا بالحتمية الاقتصادية التي تمارس دورها في احداث التحولات الاجتماعية الكبرى التي كانت تقف وراء تطور المجتمع، ويميز نفسه عن سيغموند فرويد الذي يعطي عامل الجنس الموقع الأول بين العوامل الأخرى التي تمارس دورا رئيسا في التغييرات التي تنقل المجتمع من نظام إلى آخر، نرى ماكلوهان يركز على دور التكنولوجيا، وخاصة عن طريق التقدم الذي تحدثه في وسائل الاتصال همن يقف وراء تقدم المجتمعات الإنسانية.

هذا ما تؤكده أيضا دراسة نشرها موقع "العرب" الإلكتروني، جاء فيها "يقول ماكلوهان إنه باندماج التلفزيون والكمبيوترات وقواعد البيانات تكتسب تكنولوجيات التواصل معنى في حد ذاتها يتعدى مجرد محتوى المعلومة التي توصلها إلى الزبائن. ويضيف أن “الوسيلة -وليس المحتوى الذي تقدمه- هي التي تؤثر في المجتمع وتلعب دورا ليس فقط بواسطة المحتوى الذي تقدمه ولكن أيضا بخصائص الوسيلة نفسها.... كانت هذه النظرية الخطوة الأولى لبناء ما أطلق عليه ماكلوهان بعد تطورها اسم “القرية العالمية، وهو توصيف لما أضحى عليه العالم بفضل التكنولوجيات القادرة على ربط الناس بشكل حيني في كافة أنحاء المعمورة، محطمة بذلك الحواجز المادية للوقت والمكان".

ويمضي ماكلوهان في الاتجاه ذاته، كما تتحدث عنه العديد من المصادر قائلا "ان (مضمون) وسائل الاعلام لا يمكن النظر إليه مستقلاً عن تكنولوجية الوسائل الإعلامية نفسها. فالكيفية التي تعرض بها المؤسسات الإعلامية الموضوعات، والجمهور الذي توجه له رسالتها، يؤثران على ما تقوله تلك الوسائل، ولكن طبيعة وسائل الإعلام التي يتصل بها الإنسان تشكل المجتمعات أكثر مما يشكلها مضمون الاتصال، (ويجزم ماكلوهان) ان التحول الأساسي في الاتصال التكنولوجي يجعل التحولات الكبرى تبدأ، ليس فقط في التنظيم الاجتماعي، ولكن أيضا في الحساسيات الإنسانية. والنظام الاجتماعي في رأيه يحدده المضمون الذي تحمله هذه الوسائل. وبدون فهم الأسلوب الذي تعمل بمقتضاه وسائل الأعلام لا نستطيع أن نفهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمعات".

الغريب في الموضوع هنا هو أنه حتى أولئك الذين اختلفوا مع ما ذهب إليه ماكلوهان بشأن القرية العالمية من أمثل أستاذ الآداب في جامعة تورنتو، ريتشارد بالك، لم يصمدوا امام عمق التحولات الاجتماعية التي تحدثها تلك التكنولوجيا. ولهذا نجد بالك يقول في رده على ماكلوهان   "القرية العالمية (التي روج لها مالكوهان) لم يعد لها وجود حقيقي في المجتمع المعاصر، موضحا أن التطور التقني الذي استند إليه ماكلوهان عند وصفه للقرية العالمية استمر في مزيد من التطور، وأدى إلى تحطيم هذه القرية العالمية وتحويلها إلى شظايا، مبينا أن العالم الآن أقرب ما يكون إلى البناية الضخمة التي تضم عشرات الشقق السكينة يقيم داخلها أناس كثيرون، وكل منهم يعيش في عزلة وال يدري عن جيرانه الذين يقطنون معه في البناية".

هناك اختلاف بشأن الصورة التي رسمها ماكلوهان لما يمكن أن يؤل له العالم، لكن هناك عدم إنكار بشأن تشخيصه لعلاقة التكنولوجيا، بالتحولات الاجتماعية الكبرى في تاريخ التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. وينقل الباحث تواتي نور الدين من جامعة الجزائر، في دراسة مطولة عنوانها "ماكلوهان مارشال: قراءة في نظرياته بين الأمس واليوم"، عن مالكوهان قوله ""وسائل الإعلام التي يستخدمها المجتمع أو يضطر إلى استخدامها ستحدد طبيعة المجتمع وكيف يعالج مشاكله وأي وسيلة جديدة هي امتداد للإنسان، تشكل ظروفا جديدة محيطة تسيطر على ما يفعله الأفراد الذين يعيشون في ظل هذه الظروف، وتؤثر على الطريقة التي يفكرون ويعملون وفقا لها. أي أن الوسيلة امتداد للإنسان، فالملابس والمساكن امتداد لجهازنا العصبي المركزي، وكاميرا التلفزيون تُمد أعيننا والميكروفون يُمد آذاننا، والآلات الحاسبة توفر بعض أوجه النشاط التي كانت في الماضي تحدث في عقل الإنسان فقط، فهي مساوية لامتداد الوعي".

وليس هناك من ينكر أن تكون هذا الوعي الإنساني، هو الذي يقف وراء سلوكه الاجتماعي، ومن ثم يشكل القيم التي تسير ذلك المجتمع.