ناجي بن جمعة البلوشي
nbalushi@alnaaji.com
منذ العام 2010م، والسلطنة في طريق العسرة المالية والضيق الاقتصادي؛ وذلك بعد أن اتخذت الكثير من القرارات المخففة للوتيرة التي اندلعت في تلك الأيام؛ فتنوعت تلك القرارات بين زيادة في عدد الموظفين بالقطاع العام وزيادة الرواتب فيه وزيادة الوحدات الحكومية في الجهاز الإداري للدولة، وهذا كله انعكس على الموارد المالية للسلطنة من وفرة مالية إلى العكس منها.
فمصروفات القطاع الأمني والعسكري في 2010م كانت مليارا و615 مليون ريال، ومصروفات الوزارات المدنية 2 مليار و480 مليون ريال عماني، بينما المصروفات في نفس القطاعين على التوالي في العام 2020م هو 3 مليارات و450 مليون ريال للقطاع الأمني والعسكري، وتبلغ مصروفات الوزارات المدنية 4 مليارات 490 مليون من المصروفات في القطاعين. وفي المقابل، لم تكن الإيرادات العامة للدولة في الموازنتين مختلفة ذاك الاختلاف الذي يُمكن فيه معالجة الأمور بالزمن، وترحيلها إلى زمن آخر؛ فالإيرادات المالية في 2010م للنفط 4 مليارات و50 مليون ريال، أما من قطاع الغاز فكانت 800 مليون ريال، وفي العام 2020م الإيرادات المالية للنفط بلغت 5 مليارات و500 مليون ريال إذا كان سعر برميل النفط مقدَّرا بـ58 دولارا امريكيا، والإيرادات من الغاز متوقَّع لها 2 مليار و200 مليون ريال، هذا يعنِي أنَّ زيادةً ما حصلت في الإيرادات المالية للنفط، هذا طبعا إذا بلغ سعره كما هو مقدر له (وفي ظل الأزمة الكورونية وتهاوي أسعار النفط، يمكن أن يكون هذا الرقم بعيدا بفارق 17 دولارا أمريكيا بمعدل سنوي) قد تصل بحد أقصى إلى مليار و450 مليون ريال، بينما هناك ارتفاع ملحوظ في إيرادات الغاز التي ازدادت بمقدار مليار و400 مليون ريال، لكن هذه الزيادة في الإيرادات لم تأتِ دون استنزاف من الميزانية العامة للدولة؛ ففي العام 2020م متوقع صرف 2 مليار و230 مليون ريال مصروفات إنتاج النفط والغاز، بينما في 2010م كانت المصروفات في إنتاج النفط والغاز لا تزيد على مليار و450 مليون ريال، هذا ما اطَّلعنا عليه من الموازنتين في موقع وزارة المالية، وهناك ما يلفت النظر عند قراءتك للموازنتين فتجد في 2010م يوجد عجز مقدر بـ800 مليون ريال، بينما في 2020م هناك عجر مقدر بـ2 مليار 500 مليون ريال، العجز تتم تغطيته في 2010م من السحب من الاحتياط العام. أما في العام 2020م، فتتم تغطيته من الاستقراض والسحب من الاحتياط العام للدولة، هذا إضافة إلى وجود مصروفات جديدة في هذه الموازنة تعني بدفع الفوائد على الدين العام، والتي تصل إلى 860 مليون ريال، ما كان لها أن تتواجد لولا ترحيل الديون السابقة إلى موازنة هذا العام.
يتَّضح لنا من هذه القراءة المبسطة أنَّ الأسباب التي أرهقت الموازنة العامة للدولة هي نفس الأسباب التي ذكرناها سابقا، والتي تجاوزت حدودها نقاط الصبر والترحيل؛ لما في هذا الترحيل من مشكلات جديدة ومستقبلية لا نقدر عليها مستقبلا؛ حيث تتشكل هذه المشاكل من مشاكل مالية واجتماعية واقتصادية؛ فإذا كان حل العجز الدائم بالاستقراض ودفع الفوائد عنها في ميزانياتنا المستقبلية حلا للهروب من الزمن إلى زمن آخر، فهنا نرى أن الحل بالاستقراض عادة ما يكون حلًّا قصيرَ المدى، ويمكن أن يكون من ضمن الحلول السريعة المقدَّرة بالسنوات البسيطة، لكن عندما يتجاوز العشر سنوات فهو ليس حلًّا مثاليا، وقد ينقلب إلى ثقل جديد على كاهل الإيرادات المالية؛ فإذا وصلنا اليوم إلى دفع مبلغ 830 مليون ريال مدفوعات الدين العام، والتي تمثل في واقعها مشاريع وإثراء للأعمال وتشجيع الاستثمار إذا صرفت في اتجاه آخر من المدفوعات، وإذا كان هذا في العام 2020م فإنه من المؤكد وصول المدفوعات إلى مليار ريال في العام القادم؛ لما نضيفه على ذلك الدين من ثقل جديد متمثل في الاستقراض الجديد للعام المالي 2020م، والذي حُدِّد بـ2 مليار ريال، ناهيك عمَّا يُمكن أن يزيده الوباء الصحي الذي أثر تأثيرا حادا في شلل الإيرادات من الوزارات الخدمية ورفع سقف المصروفات في وزارة الصحة، وأسهم في تقليل الإيرادات الاستثمارية من الشركات الحكومية والاستثمارات المالية، وإذا كان عجز الموازنة المقدر للعام المالي 2020م هو 2 مليار و500 مليون ريال، فإنَّ العجز المالي الحقيقي سيكون أكبر من هذا الرقم لما ذكرناه من أسباب، كما إذا لم يحدث أي تغيير على مصروفات القطاع الحكومي بشقيه فإنَّ العجز المقدَّر للعام 2021م سيرتفع ليكون ما بين 3 إلى 3.2 مليار ريال؛ بسبب تدنِّي أسعار النفط وآثار الجائحة الصحية على الإنتاج والإيرادات المالية من الاستثمارات الحكومية، وارتفاع قيمة المدفوعات المالية للدين العام...وغيرها من أسباب العجز الجديدة. هذا فيما نختصره في الجانب المالي، أما في الجانب الاجتماعي المالي فإنَّ توقيف التوظيف والشواغر الوظيفية في القطاع الحكومي ليس حلًّا مثاليًّا؛ فالقطاع الحكومي يحتاج إلى التجديد دائما، خاصة وأنَّه قطاع انتسب إليه كثير من موظفيه في زمن لم تصل فيه المعرفة والتعلم والتقنية إلى ما وصلت إليه اليوم، كما أن توقيف العلاوات والحوافز والمكافآت المالية عن الموظفين ليس حلًّا مناسبًا لما يسببه هذا الحل من ازدياد لأرقام مالية وأعداد من المستحقين يُمكن أن يشكلوا مبلغا ضخما يوما ما يصعب تسديده في فترة زمنية واحدة، وهذا من الجانب الحكومي، أما من جانب القطاع الخاص والعاملين فيه فإنَّ تقليص الإنفاق في المشتريات والعقود والمناقصات والأعمال ليس حلا سديدا، وقد أشرت إليه في مقال سابق.
... انَّ هذا الطريق الذي نحن عليه في نقل العجز من سنة لأخرى مع بلوغ الدين العام رقمًا قد نشرته مؤشرات التصنيف الائتماني للدول، ليضع السلطنة في موضع التصنيف الائتماني المعروف للجميع، مما قد يتسبَّب في مشاكل أخرى قد تنال من البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي ( تنفيذ)، وربما يكون هذا سببًا من بين الأسباب التي أخرت المشروع الوطني رؤية عمان 2020 من 2020 إلى 2040م.
بينما هذه الحال كان بوسعنا أن لا نصل إليها إذا اتخذنا قرارات صارمة وقاطعة بعد مرور 5 سنوات من الاختلاف الجذري في الموازنة، خاصة بعد أن تردت أسعار برميل النفط بداية من العام 2014م والتي بدورها كانت إشارة لنا لوضع حلول وقرارات قاطعة لتلك الفترة الجديدة من الأسعار النفطية، لكن هذا لا يعني فوات الأوان ونهاية الأمل؛ فالأمور تسير في صالحنا دائما على الرغم من أننا وصلنا إلى كل هذه الأرقام والتصنيفات؛ فمن مجرد فهمنا للخطأ او أسباب المشكلة، فإن هذا كاف لنا أن نقتنع أننا وصلنا للحل، ويتبقى علينا ابتكار طرق الحل وآلية تنفيذها.
فرجل السلام الأول السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- واجه في فترة توليه لمقاليد الحكم في البلاد كثيرا من التحديات؛ التي من بينها -ولمدة 6 سنوات من سنواته الأولى- كان حلها بالتدخل العسكري الصارم والقاطع في بعض مناطق السلطنة، ليكمل بعدها فترة حكمه التي امتدت لما يقرب من نصف قرن من الزمان في رخاء وسلام دائم، هذا لأنه كان ذا فلسفة الواقع؛ فالواقع حتم عليه ذلك التدخل العسكري، والواقع حتم عليه أن يكون مسالما باقي فترة حكمه.
هكذا ما ينبغي علينا فهمه والعمل به في "تقليص مع زيادة" 2.5 مليار ريال من "مصروفات مع إيرادات" الموازنة العامة للدولة هو هدفنا، أما آلية القيام بهذا فهو أمر يحتاج إلى تكاتف الجهود والآراء والعقول دون نقل المشكلة من موقعها وزمانها إلى موقع وزمان آخر؛ فالمشكلة موجودة في أروقة القطاع العام، والحل موجود هناك، والزمان الذي نحن فيه هو زمانها، ولا يمكن أن ننتظر إلى زمان يكون فيه ارتفاع أسعار النفط أو الوصول لذروة البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي (تنفيذ)، أو انتظار الانتهاء من الرؤية الوطنية 2040؛ فذاك زمان لأبنائنا وأحفادنا، وفيه ما فيه من الإيرادات المالية تكفي لهم ولزمانهم.
القرار الصارم والقاطع قد يكون له تأثير لحظي ووقتي، لكنه جذري، ولن يدوم معنا في باقي مراحل حياتنا التنموية، وهذا ما نرغب فيه في مثل هذه الحالات التي تستوجب الصرامة والقطع، أما الرخاء والعيش فيه، فهذا حال اعتدناه نحن أبناء سلطنة عُمان في كل زمن مرَّ بنا كنا فيه بين حالين: حال فيه غِلظة وشدة، وحال فيه رخاء وهناء، فبرنامج لمدة 3 أعوام بداية من هذا العام يكفي لإنهاء كل هذه الأثقال التي حملناها معنا لنسير في التنمية خفيفين دون أن تتزاحم علينا، هذا أمر في قرار المختصين دوما وفي حكمتهم بالنظر في مصروفات البيت الحكومي ذاته، المتكون من موظفيه أولا، قبل مصروفات حاجاته وحاجات المستفيدين منه كأبناء الضمان الاجتماعي أو الطلاب أو طالبي الرعاية الصحية أو غيرهم ممن لهم استفادة في ذلك، أو في تلك الوحدة من أعمال وخدمات؛ فعند تقليل 5% من مصاريف الموظفين خير من قطع مصروفات المساجد أو خصم معاشات المستفيدين من الضمان الاجتماعي، وهنا لعلِّي أكون واضحا، فنحن في بلد نعرف فيه بعضنا بعضا، هذا كله من أجل عُمان وأبنائها ومستقبلها، في ظل القيادة الحكيمة لمولاي السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه.