حرية الصحافة ومهنة المتاعب

 

 

سالم الكثيري

لعلَّ الشيء الوحيد الذي اتفق عليه المشتغلون بالصحافة -رغم اختلاف مدارسهم وأهوائهم ومصالحهم- أنها فعلا "مهنة المتاعب"؛ فالصحفي أو الإعلامي أو الكاتب -أيًّا كانت التسمية- يواجه من التحديات اليومية ما لا يعد ولا يحصى، وأظن أنه لو كان هناك من جهاز يكشف المعاناة التي يعايشها معظم الصحفيين مقارنة بالصورة اللامعة التي يظهرون عليها في البرامج التليفزيونية أو الإذاعية أو في الصحف ووسائل التواصل، لتراجع الكثير من المنبهرين بهذه النجومية عن أحلامهم في الانضمام لهذا الميدان، إن لم يصرفوا عنه النظر تماما.

وذلك أنَّ الصورة البراقة التي تظهر للمتلقي دائما قد يكون وجهها المختفي كمًّا هائلًا من العذابات التي لا حصر لها؛ بدءا بدوامة اللهاث وراء الأخبار التي لا تنتهي، وقلة الحافز المادي مقارنة بما يبذل من جهد، إضافة لضعف قوانين حماية الصحفيين في العالم الثالث، والتي تجعلهم في معظم الأحيان عُرضة للاعتقالات والتنكيل، ليجد الصحفي نفسه في لحظة موحشة من الزمن في مهب الريح وقد تبرَّأ منه حتى أقرب المقربين إليه كالمؤسسة الصحفية التي يعمل بها -كي تنأى بنفسها عن مضايقات السلطات الحاكمة، وتجنُّب توتر علاقاتها مع المعلنين، وغيرها من الجهات الداعمة ماليا- بل وأحيانا يتنكَّر للصحفي المجتمع الذي يطرح قضاياه ويتبناها بكل جرأة ومصداقية بسبب الخوف أو الدعاية المضادة، ناهيك عن التعرض للموت في مناطق النزاعات والحروب. وقبل هذا وذاك تأنيب الضمير والقلق النفسي الذي يصيب الكتاب والصحفيين جراء ما يرونه من حقائق مذهلة، يعجزون في كثير من الأحيان عن البوح بها للجمهور.

أفلا نتَّفق بعد كل هذا على أنَّ الصحافة هي فعلا "مهنة المتاعب"، وهل يُلام الصحفي إذا بات مترددا في التقصِّي وراء الحقائق، وفتح الملفات المغلقة، واختار طريق الأمان بدلا من أن يغرد خارج السرب، أو يصبح خلف القضبان؟!

وعلى الرغم من كلِّ ما سبق، وفي يوم الاحتفال بحرية الصحافة الذي يوافق الثالث من مايو من كل عام، فإنَّ دعواتنا لكل الصحفيين والكتاب والإعلاميين في وطننا وعالمنا العربي أن يبذلوا كلَّ ما في وسعهم لطرح هموم أوطانهم ومجتمعاتهم بتجرُّد ومهنية، وأن "يكتبوا بضمير مهما واجهتهم التحديات"، وألا يسلموا أقلامهم وعقولهم للمال السياسي أو الأهواء الاجتماعية أو غيرها من صراعات تُبعدهم عن الحقيقة التي هي أساس هذه المهنة وسقفها؛ فأقلامهم وأصواتهم هي المتحدث باسم الأمة، وعليها تنعقد آمال أبنائها في التغيير نحو الأفضل واللحاق بركب العالم المتقدم، وعلى الحكومات العربية أنْ تُدرك تمامَ الإدراك أنَّ حماية الصحفيين قانونيا، ومنحهم الحرية الكاملة في طرح ومناقشة القضايا المختلفة، وتفعيل مفهوم السلطة الرابعة بمعناه الحقيقي؛ لمراقبة أداء السلطات الثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، أمرٌ في غاية الأهمية، خاصة في الدول التي تسعى للإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد.

... إنَّ الصحافة الحرة التي تطرق كل الأبواب دون تهيُّب أو وجل، هي مرآة ساطعة للدولة القوية المتماسكة قانونيًّا ومجتمعيًّا.