د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
www.omaninvestgateway.com
يتَّفق الجميع معي على أنَّ مُواصلة النمو، والمحافظة على مستوى المعيشة الحالي في سلطنة عمان، أمر ممكن؛ في ظل توفر العديد من المقومات والفرص والموارد البشرية الشابة والموارد الطبيعية، ووجود البنى الأساسية والموقع الجغرافي المتميز، إلا أنَّ الاستفادة من هذه المقومات والممكنات لا تحدث تلقائيًّا، وإنما هناك متطلبات وأدوار لتفعيلها نحو الأفضل؛ أهمها: الدور المشترك للحكومة والمجتمع والقطاع الخاص، كفريق واحد يعمل وفق آليات واضحة ورصينة تضمن تشغيل محفزات ومحركات النمو والتنمية. وفي هذا الشأن يحتل القطاع المصرفي أهمية كبيرة حسب المهام والأدوار التي كلف بها.
ثمَّة مجموعة من المؤشرات التي توضِّح مدى كفاءة هذا القطاع في أي اقتصاد؛ من بينها: مؤشر حجم الائتمان المقدم للقطاع الخاص؛ باعتباره مؤشراً على مدى نجاح القطاع المصرفي في تمويل القطاعات الإنتاجية، والذي ينعكس في زيادة الاستثمارات الفعلية، ومن ثم زيادة الإنتاج وبالتالي الدخل. ومن دراسة وتحليل الإحصاءات المتوفرة عن هذا القطاع في السلطنة يبرز واقع وخصائص القطاع المذكور؛ وذلك على النحو التالي: على الرغم من أنَّ القطاع المالي يلعب دورا محوريا وإستراتيجيا في تحقيق التنمية، إلا أنه في الدول النامية -ومن بينها السلطنة- يتم التعامل معه على غير هذا النحو. حيث تعتمد الدول الريعية بشكل كبير على القطاع العام كمحرك رئيسي لاقتصاداتها. فنجد القطاع الحكومي يؤدي دور المدخر والمستثمر الرئيسي في الاقتصاد، ويتضح ذلك جليا في الوزن النسبي الكبير للاستثمار العام في التكوين الرأسمالي. الأمر الذي انعكس على مُزاحمة الاستثمار الخاص، والذي يُمثل نسبة متواضعة في التكوين الرأسمالي. وفي جانب الحجم، نجِد البنوك العمانية هي الأصغر نسبيًّا في المنطقة (البنوك العُمانية مجتمعة لا توازي بنك خليجي واحد كبنك القطر الوطني، بنك ابوظبي الوطني، مصرف الراجحي) وبحسب دراسة تمت عام 2015م، فإنَّ إجمالي أصول البنوك العمانية مجتمعة لا تتجاوز 4% من أجمالي أصول البنوك الخليجية. وفي جانب التنويع، مازالت خطواته بطيئة في تبني أحدث إنجازات التقنية والمنتجات المصرفية؛ نظراً لارتفاع تكاليفها وندرة الخبرات المحلية ذات الصلة. وعلى صعيد التركز، نلاحظ ارتفاع عالي في نسبة التركز؛ حيث تمتلك ثلاثة بنوك أكثر من 75% من إجمالي أصول القطاع المصرفي العماني (ويستحوذ بنك محلي واحد على أكثر من 40٪ من المجموع). أما في جانب الاحتكار (تقييد دخول بنوك جديدة)، يتصف القطاع المصرفي في السلطنة بالاحتكار النسبي؛ سواء من حيث عدد البنوك أو نوعية الخدمات المقدمة؛ لذلك تعتبر البنوك من بين أكثر المؤسسات ربحية في السلطنة. ومن وجهة نظري، من المهم فتح هذا القطاع لمن يرغب من المستثمرين سواء محليين أو أجانب مع ضرورة التقيد بالقيود والمعايير المعمول بها في هذا الخصوص؛ ذلك أن إغلاق الأبواب أمام هذه البنوك من شأنه أنْ ينعكس سلباً على جذب الاستثمار الأجنبي لكون هذه البنوك ستكون مصدراً للمعلومات غير الدقيقة لعملائها الراغبين في الاستثمار في السلطنة. وعلى مستوى أسعار الفائدة في البنوك العاملة في السلطنة، نلاحظ تباينا وهامشا مرتفعا نسبيًّا بين أسعار الفائدة على الودائع والقروض. فسعر الفائدة على الودائع أيًّا كانت قيمتها لا يصل إلى أكثر من 3%، في حين يصل سعر الفائدة على القروض إلى مستويات مرتفعة تتجاوز 8,5%، ويستفاد من الفارق الكبير بين السعرين في تغطية المصروفات الإدارية وأرباح للبنوك. وعلى صعيد التمويل، يُلاحظ أنَّ جميع البنوك العاملة في السلطنة لا تُقبل على تمويل المشاريع على أساس ضمان المشروع أو على أساس العوائد المرتقبة منه، لكنها تشترط تقديم ضمانات شخصية من المستثمرين، ومن شأن ذلك أنْ يحد من تنفيذ العديد من المشاريع الإنتاجية لعدم رغبة الجهات الممولة تحمُّل أي درجة من المخاطرة. وفي جانب الأقساط المدفوعة لسداد القروض، أقساط الغالبية العظمى من المواطنين المقترضين المدفوعة لسداد القروض قد تجاوز 50% من الراتب؛ الأمر الذي يدل على إغفال البنوك لدورها الحيوي في خدمة التنمية الاقتصادية، حيث تقوم بالتركيز على الإقراض الاستهلاكي للمواطنين، وما يترتب على الإفراط في منحها من تداعيات سلبية على الاقتصاد ككل. وعلى مستوى المشاركة في العملية الإنتاجية، لا تزال مشاركة البنوك في جهود التنمية الاقتصادية (العملية الإنتاجية) دون المستوى المطلوب، وبالنسبة للائتمان المصرفي الممنوح حسب النشاط الاقتصادي تستحوذ القروض الشخصية والإسكانية والاستهلاكية على نصيب الأسد. في حين على صعيد تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لا تزال نسبة التمويل متواضعة لا تصل إلى 5% من إجمالي الائتمان المصرفي، في حين دولة مثل سنغافورة يزيد الائتمان الممنوح للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة فيها على 35%. وعلى مستوى النطاق، تعمل المؤسسات المالية كافة -بما فيها بنك التنمية العماني وشركات التمويل- في نطاق محدود وتغطي قطاعات محددة. وفي جانب الوجود العالمي، هناك تواجد محدود للبنوك المحلية على الخارطة الإقليمية والعالمية؛ الأمر الذي يحد من قدرات شركات القطاع الخاص في التوسع في عملياتها خارج السلطنة، وهذا أمر ضروري لتكوين كيانات محلية كبيرة قادرة على المنافسة في السوق العالمي، والاستفادة من الفرص المتاحة في المنطقة. وعلى صعيد التصنيف الدولي، هناك تراجع في التصنيف الائتماني للقطاع المصرفي مقارنة بالقطاعات المصرفية في المنطقة، وأثارت التقارير المنشورة مؤخرا من وكالة موديز للتصنيف الائتماني قلقا بهذا الشأن؛ الامر الذي سيحد من قدرة البنوك العمانية على الولوج إلى السوق العالمية، وارتفاع تكلفة القروض عليها؛ بما سينعكس على ارتفاع تكلفة القروض التي تمنحها البنوك محليا. وفي جانب الادخار، يعدُّ معدل الادخار لدى الأسر العمانية متدنيا للغاية للعديد من العوامل؛ على راسها: طبيعة تركيبة الاقتصادات الريعية، علاوة على ضعف قدرة البنوك على إيجاد وتعزيز منتجات ادخارية متطورة، وكذلك اتساع الفجوة بين سعر الفائدة على الودائع والقروض، ومحدودية منتجات الادخار والقنوات المتاحة في السوق وكذلك عدم تطوير الثقافة المالية لدى المجتمع؛ الامر الذي يحد من قدرته على الاستثمار.
... إنَّ تأثير القطاع المالي في عملية التنمية الاقتصادية يختلف باختلاف الدور الذي تلعبه المؤسسات المالية في تقديم الائتمان؛ حيث من المعلوم أن المؤسسات المالية تجني جزءًا كبيراً من أرباحها من خلال الفائدة المفروضة على الائتمان الذي تقدمه لأغراض الاستهلاك أو الإنتاج. وتميل البنوك لتقديم القروض الاستهلاكية؛ كونها مضمونة بالكامل؛ لأن العملاء يعملون معظمهم في الحكومة وشركاتها ويقومون بتحويل رواتبهم ومستحقات نهاية الخدمة إلى البنوك، كما أنَّ أسعار الفائدة التي تتقاضاها عن هذا النوع من القروض تفوق أسعار الفائدة على أنواع القروض الأخرى (الإنتاجية).
وهنا.. من المهم التمييز بين النتائج المترتبة على القروض الاستهلاكية في الأجلين القصير والطويل؛ كونها متباينة بدرجة ملحوظة؛ حيث ما قد يكون إيجابياً ومحفزاً للنشاط الاقتصادي في الأجل القصير تكون نتائجه سلبية على الاقتصاد في الأجل الطويل. ففي الأجل الطويل: إنَّ النتائج المترتبة على تلك القروض غير المواتية سواء للاقتصاد ككل أو لقطاع البنوك؛ وذلك لثلاثة أسباب رئيسية؛ هي أولاً: أن النمو الاقتصادي في الأجل القصير كان يعتمد على الاستهلاك بدرجة كبيرة وليس الإنتاج. وبمعنى آخر، أن ذلك النمو الاقتصادي كان قائماً على جانب الطلب وليس جانب العرض. ثانيا: أن الاستهلاك اعتمد بدرجة كبيرة على الدين وليس الدخل. ثالثا: أن جزءً كبيراً من الطلب تم إشباعه عن طريق الواردات من السلع والخدمات والعمالة الأجنبية وليس بالإنتاج المحلي والعمالة الوطنية. وأخذاً في الاعتبار تلك الأسباب، نصل إلى حقيقة مفادها أن قدرة البنوك على منح القروض تتوقف على الموارد المالية المتوفرة لديها سواء من الادخار المحلي الذي سيتأثر سلبا من التوسع في القروض الاستهلاكية التي من شأنها استبعاد القروض للأغراض الإنتاجية؛ وبالتالي تقل الاستثمارات الفعلية. ومن ثمَّ، يقل الدخل وأخيراً، كلما انخفض الدخل انخفض الادخار. وفي الجانب الآخر، فإن زيادة الواردات تؤثر سلبا على أوضاع ميزان المدفوعات؛ بما يؤثر على ثقة المستثمرين والبنوك الخارجية في توفير موارد مالية كافية للبنوك المحلية لممارسة أعمالها.
وختاما.. الجميع يشدُّ على أيدي القائمين على هذا القطاع المهم، وهم يدركون حجم التحديات والتحولات القادمة، والحاجة لنفض الغبار عن مفاصل هذا القطاع للانطلاق به مع القطاعات الاقتصادية الأخرى لصناعة المستقبل ونسج خيوط النهضة العمانية الجديدة.. نراكم في المقال القادم حول الدور المرتقب من القطاع المصرفي.