المنشور (14)

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

كانتْ تَوجِيهات حَضْرة صَاحِب الجَلالَة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- القاضية بتعمين الوظائف في الشركات الحكومية، وفق المنشور المالي رقم (14) الصادر عن وزارة المالية؛ أكبر دليل على أن ملف "التعمين" -الذي أصابَه الركود في أعقاب حركة التوظيف الموسَّعة التي شهدتها البلد في أعقاب 2011- سوف يتصدَّر أولويات العهد الجديد، وأنَّ الحقَّ في العمل والطمأنينة الاقتصادية -وهي من الموجهات الرئيسية في النظام الأساسي العماني- سوف يتمُّ تعزيزها؛ وصولا لجعل الأولوية في التنافس على فرص العمل؛ خصوصًا التي تملكها الحكومة لصالح الكفاءات العُمانية التي أنفقت الدولة على تعليمها ملايين الريالات في الداخل والخارج.

إنَّ هذه التوجيهات هي كتابة لتاريخ جديد في هذا الملف؛ وما دار حولها من جدل وتحليل إقليمي تناولته وكالات الأنباء هو خَير دليل على أنَّ هذه الخطوة، هي خطوة جريئة جدا في المنطقة، وستقود لإجراءات مماثلة في بقية دول المنطقة، ونود في هذا المقال أنْ نحلل ثلاث مواقف ظهرت تجاه المنشور المالي رقم (14):

- أولا: فريق يدعم هذه الأوامر، ويرى أن جلالته وضع فيها الأمور في نصابها الصحيح، خاصة في ظل تزايد عدد الباحثين عن عمل، وتلكؤ كثير من المؤسسات الخاصة الكبرى عن استيعاب بعض هذه الأعداد لمبررات متعددة وغير منطقية خلال العقود السابقة، وأيضا في ظل ما أعلن عنه ما رفع مبررات لتطوير هذه الشركات وتوسعتها من أن كل هذه التطويرات سوف تقود إلى استيعاب أعداد أكبر من القوى الوطنية، ولكن ذلك لم يحصل، بل قادت إلى استيعاب أعداد أكبر من العمالة الوافدة، ويكفي للتدليل على ذلك تتبع الإحصاءات السكانية التي يصدرها المجلس الأعلى للتخطيط من أن الذين دخلوا البلد بعد 2011م حتى اليوم تجاوز مليون ونصف؛ مما قاد العاملة الوافدة لتقترب من نسبة المواطنين، وهي أعداد رافقتْ تدشين شركات حكومية جديدة، وانتهاء مشاريع وطنية قائمة، وهنا تمَّت صناعة فجوة التوظيف، وتمَّ التفريط في حق أبناء الوطن من أن يشغلوا الأعداد التي تمَّ التصريح بها من قبل المسؤولين ورؤساء مجالس الإدارات في هذه الشركات التي توالدت وتشعبَّت، ولكن للأسف لم تتسع لأن تستوعب الفئات التي تتلاءم مع أعمالها من القوى الوطنية.

- ثانياً: فريق بدأ يُعيد سرد نفس السردية المتعلقة بالقوى العاملة الوطنية؛ ونقص تأهيلها وكفاءتها وانضباطها مقارنة بهذه العمالة، وأن هذه القرارات لها مخاطر متعددة على إنتاجية هذه الشركات، وكلفتها التشغيلية، في الوقت الذي لابد فيه من التركيز على زيادة إسهام هذه الشركات في الناتج المحلي. وهذه السردية التي يبدو أن ظاهرها فيه حرص على الوطن ومقدراته، إلا أنها في باطنها تحمل دعوات لمزيد من الإبعاد للكفاءات الوطنية من بعض هذه الشركات، التي حتى قبل هذا المنشور لم تضفِ إلا مزيدا من الخسائر والأعباء المالية على خزينة الدولة، وكلما سُئِل القائمون عليها عن موعد تصحيح هذه الاختلالات أجابوا: " قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا"، هي إجابة توارثتها قيادات هذه الشركات ومجالس إداراتها طوال هذه العقود دون تغيير أو تغيُّر، أو حتى التفاتة إلى ما يجري في الواقع الوطني.

- ثالثاً: فريق إقليمي استنكَر هذا القرار، وشكَّك في القدرة على تنفيذه، وبنى رده على السردية السابقة المشكِّكة في كفاءة القوى الوطنية، وهو طبعا غير مقبول، ومن حق أي دولة أن تعمل على ضمان مصالحها الوطنية، وتتَّخذ قراراتها السيادية التي ترى فيها الصواب لها ومواطنيها، ولا يمكن لأي بلد أن يضع خيرة شبابه على قارعة الطرق، في الوقت الذي يفتح شركاته الحكومية لفئة معينة خارجية ترى أنَّ لها الأحقية في شغل هذه الوظائف، ولا أعرف من أين نبع هذا الحق، وما التاريخ الذي يدعمه، وهذا الموقف بلا شك يعدُّ سابقة في التصريح المباشر في مواجهة ملف "التعمين" من الخارج، وهو تحدٍّ يجب التنبُّه له.. لقد حدثت مثل هذه الادعاءات عشرات المرات، ولابد من المضي دون الالتفات لها؛ لأنه يسندها حق وطني، لا تاريخي ولا اقتصادي.

... إنَّ مسألة التعمين والإحلال الوطني سياسة لا تُنكر الدور الذي قامت بها العمالة الوافدة داخل البلد في مراحل مختلفة؛ وهي لا تُقصِي هذه العمالة من جميع قطاعات العمل، ولكن الحق الوطني يُحتِّم إحلال القطاعات التي يتوافر كفاءات وطنية لقيادتها؛ خاصة في ظل التنافس الشديد على فرص العمل على مستوى العالم؛ ونأمل أنْ تمتد هذه التوجيهات السلطانية من الشركات الحكومية إلى المؤسسات الحكومية الأخرى التي تتضمَّن أعدادا أكاديمية وفنية يُمكن للكفاءات الوطنية العمل فيها؛ لأنَّ ذلك سيقود إلى تحقيق الاستقرار والشعور بالطمأنينة لشبابنا؛ فعملية الإحلال ليست اقتصادية بحتة؛ بل تحمل أيضًا أبعادًا اجتماعية عميقة لا يمكن تجاهلها، والجميل في هذه الأوامر هو وضع سقف زمني لها، وهو ما لم نعهده من قبل؛ مما يعني أنها سوف تخضع للمتابعة والتقييم، وسوف يتطلب تقديم مؤشرات لها.

هذا ما يجعلنا نقول إن هذه التوجيهات التي حملها المنشور رقم (14) تعد تاريخية في ملف التعمين، الذي اكتنفه كثير من الإرباك وعدم الوضوح خلال العقدين السابقين، وآن الأوان لبداية فصل جديد منه، خاصة مع بدء تطبيق الخطة الخمسية العاشرة أولى الخطط الخمسية من رؤية عُمان 2040، التي يعول عليها الجميع إحداث نقلة اقتصادية واجتماعية وثقافية داخل البلد.. ووضع النقاط على الحروف منذ البداية، سيقود هذه الرؤية إلى تحقيق أهدافها المنشودة.